تشهد الأزمة الليبية حراكاً متعدداً في أماكن متعددة يأخذ شكل لقاءات وصفت "بالمشاورات" تمهيداً للحوار بين المتنازعين في ادّعاءٍ بأنها مقدمات للحل السياسي.
ولكن السؤال: هل هذا الحراك وهذه المشاورات من أجل إيجاد حل حقيقي للأزمة؟ أم هو أولاً من قبيل "اللعب في الوقت الفاضي أمريكياً"؟! وثانياً: بدافع من شعور الأطراف المحلية بضرورة إنهاء الأزمة أم أنهم لا يملكون ذلك؟
وفي هذا الحال يكون هذا الحراك كله بترتيب وتكليف من الراعي الأمريكي، فلا بد من معرفة الهدف الذي يقود إليه هذا الحراك.
كلنا الآن يدرك أن المهيمن على المشهد والمتحكم فيه هو أمريكا، وتأثير بقية الأطراف الدولية أصبح أضعف مما كان عليه قبل سنة ونصف تحديداً، فالفرنسيون أصبحوا غير قادرين على التحرك عبر المتخاصمين والمتواجهين على الأرض، لانكشاف الدور الخبيث الذي كانوا يلعبونه بين حفتر وحكومة الوفاق. والإنجليز يتحركون من خلف الستارة في الغرف المظلمة، يحركون هذا ويقترحون على ذاك ويقومون بتقديم المشاريع عبر مجلس الأمن، التي في غالب الأحيان تفشل "بالفيتو".
ولمعرفة الإجابة على الأسئلة السابقة لا بد من استعراض الأعمال الجارية الآن:
1- في نهاية الشهر الماضي أطلق فايز السراج مبادرته بوقف إطلاق النار، وعقيلة صالح ممثل الطرف الثاني في الصراع أعلن هو أيضاً وقفاً لإطلاق النار في اليوم نفسه، في دلاله واضحة بأن الأمر دبر في الخفاء.
2- بعد إعلان وقف إطلاق النار ظهرت الدعوات إلى الحوار؛ فكانت الدعوة إلى حوار في المغرب في مدينة بوزنيقة لمجموعة من برلمان طبرق والمجلس الأعلى للدولة، ثم أعلن في 6 أيلول/سبتمبر عن لقاء تشاوري آخر في القاهرة يضم أعضاء من البرلمان وأعضاء المجلس الأعلى ومعهم المستشار الأمني للسرّاج.
3- وفي المدة ذاتها، أعلن عن حوارات كانت تتم في جنيف بين مجموعة يمثلون حفتر وأخرى تمثل عناصر النظام السابق مع ممثل عن حكومة السراج - لم تذكر أسماؤهم - تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة.
4- سافر السراج على عجل إلى أنقرة أو استُدعي، واجتمع مع أردوغان ونوقشت كما ذكر في الإعلام "مستجدات الأوضاع في ليبيا".
5- بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر صرح المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة بأن "ما يجري في المغرب ليس حوارا وإنما هو مشاورات تمهد للحوار"، في محاولة لحفظ خط الرجعة.
6- في 7 أيلول/سبتمبر، مندوب ليبيا في الأمم المتحدة يبلغ مجلس الأمن بأن مليشيات حفتر خرقت وقف إطلاق النار أربع مرات خلال 72 ساعة.
7- قبل هذا وذاك أمريكا على لسان مندوبتها في مجلس الأمن ترفض تقسيم ليبيا، مما يعني أن الأمر قيد التداول من بعض الأطراف، وخصوصا فرنسا. وترحب أمريكا بإعلان السراج وعقيلة صالح وقف إطلاق النار، قائلة: "يجب أن يقود الأطراف الليبيون الحل من خلال المفاوضات السياسية نحو انتخابات وطنية" وتابعت: "عملية السلام ستنجح في ليبيا عندما تكف الأطراف الخارجية عن تغذية الصراع..."! يا للعجب كأن بلادها ليست هي من يغذي الصراع عبر عملائها السيسي ومحمد بن سلمان وغيرهما متغاضية عن عميلها حفتر!
ولا يفوتنا هنا أنه بموازاة أعمال الأطراف الخارجية والحركة السياسية الدائرة، هناك سباق بين المتفائلين من المتربحين من استمرار الأزمة.
ونحن نلاحظ أن هذه اللقاءات التي توزعت بين القاهرة والمغرب وسويسرا انطلقت بعد صدور بياني السراج وعقيلة صالح لوقف إطلاق النار، ولم يمر عبر حفتر "إعلاميا" للإيحاء للشارع بانتهاء مهمة حفتر.
وبالنظر في هذه اللقاءات والحوارات وتفحص البيانات الصادرة عنها، وترحيب البعثة الأممية بها المتمثلة في تصريحات ستيفاني ويليامز الأمريكية نجد أنها تصب في تحقيق جملة من الأمور:
1- تقصير مدة رئاسة السراج وبعض من معه.
2- تضييق المجلس الرئاسي من تسعة أعضاء إلى رئيس وعضوين.
3- جعل الرئيس والعضوين الممثلين للأقاليم الثلاثة المكونة للبلاد؛ إقليم برقة وإقليم طرابلس وإقليم الجنوب غزان في شكل فيدرالي مقدمة للتقسيم، إذا رأت أمريكا في ذلك مصلحة لها.
4- إقرار فترة انتقالية جديدة يستطيعون من خلالها تحقيق جملة من الأهداف:
أ- إنهاء العناصر الثائرة المقاتلة بالقتل أو الاحتواء.
ب- تمكين عملاء جدد من سدة السلطة لإكمال المشروع الخبيث.
ج- القبض على اقتصاد البلاد المتمثل في عائدات النفط وجعلها في يد الأمم المتحدة وإخراجها من يد السلطة فيما يشبه ما جرى في العراق.
وقد رحبت السفارة الأمريكية في بيان مطول أذاعته قناة الحرة السبت بما سمته "اتفاقاً ليبياً سيادياً" بين الأطراف المتنازعة لإعادة تسيير نشاطات المؤسسة الليبية للنفط، مشددة على أهمية التخلص من "التدخلات الأجنبية" و"كسر حلقة النهب".
بعد هذا العرض لما يجري لا يسعنا إلا أن نقول ما قاله الأخ العزيز الأستاذ محمد عمر في وصف هذا الواقع المرير الذي ساعدت فيه هذه الفئة الباغية المتحالفة مع الأجنبي والماسكة بهذه السلطة:
"لقد تقاسموا الرواتب والوظائف والمخصصات والامتيازات وعاثوا في الأرصدة والمقدرات … ثم باؤوا بالفشل الذريع المريع في تقديم الخدمات الأساسية - وحتى - في إدارة الحرب، وعجزوا عن إدارة الأزمات التي تراكمت وتورطوا في استدامتها وضيعوا - حتى على حليفهم التركي - هوامشه بتوقيعات موسكو وبرلين... وها هم اليوم يمنحون أنفسهم وأحزابهم - برضا سيدهم الأمريكي - الحق في التمديد لفترة انتقالية عبثية مضافة لن تزيد وطننا وقضيتنا إلاّ رهقاً".
حالهم حال قارون ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ [القصص: 76]
"إن إزالة هذا الركام الوهمي المزور، عن كاهل هذا البلد المنكوب هو الهدف الأول لأي جهد حقيقي، ينطلق من تحرير الإرادة واسترجاع السيادة بالانفضاض عن الأجنبي، وتأسيس البنيان على الإرادة الذاتية الحرة".
رأيك في الموضوع