مضى على اجتياح حفتر للغرب الليبي سنة كاملة لم يحقق فيها أي نصر عسكري بارز، بل حصد هزيمة له في عاصمة الجبل الغربي مدينة غريان وطرد منها يجر أذيال خيبته، وظهر للعيان أن أغلب أهلها لا يقبلون به حاكما للبلاد.
ولكن أصبح من نافلة القول إن حكومة السراج هي أفشل حكومة مرت على البلاد منذ سقوط القذافي سنة 2011م، فقد استلمت إدارة البلاد في 30 آذار/مارس سنة 2016 قادمة من الخارج على ظهر فرقاطة إيطالية بحماية بوارج فرنسية، وقد تشكلت هذه الحكومة بإرادة أجنبية بمقتضى وثيقة الصخيرات، ولم يكن لأي من القوى المحلية دور في تشكيلها. وعمرها الآن تجاوز الأربعة أعوام ولم تحقق هذه الحكومة أي إنجاز، فقط الانهيارات المتوالية من التضخم الذي وصل منذ سنتين إلى 1000% ثم تراجع إلى 400% الآن، إلى هبوط مريع في مستوى الدخل العام بعد إقفال تصدير النفط على يد حفتر وعصابته، ولم تتقدم شبرا واحدا في مسار حل الأزمة الليبية وإيقاف الصراع المسلح القائم بين قوات حفتر ومن معه من المليشيات المتعددة الجنسيات من جهة والقوى التي تتحكم في الغرب الليبي، حتى فاجأت قوات حفتر الرأي العام في البلاد بتقدمها بتاريخ 4/4/2019 محاصرة طرابلس في شكل قوس من الجنوب والجنوب الغربي والجنوب الشرقي في خط يمتد من مدينة ترهونة شرقا حتى قاعدة الوطية غربا. والمعارك ترتفع وتيرتها أحيانا وتنخفض حينا وخصوصا حول العاصمة، ولم يحصل أي تقدم لكلا الطرفين، غير أنه منذ الخامس والعشرين من شهر آذار/مارس حصلت بعض التبدلات في الموقف العسكري ولاحظنا تغيرا في أسلوب المواجهة من طرف القوات الموالية لحكومة السراج. وقام سلاح الطيران بغارات مكثفة على خطوط إمداد حفتر في أماكن متباعدة في قاعدة الجفرة وقاعدة الوطية ومنطقة الوشكة في الوسط وقرب ترهونة وقرب بني وليد في شرق طرابلس وهذا صاحبه انخفاض قدرة حفتر على استعمال سلاحه الجوي بعد استلام القوات الموالية للوفاق منظومات دفاع جوي، غير أن هذا كله صاحبه قصف عنيف لأحياء مدينة طرابلس من طرف قوات حفتر حتى لا يكاد يسلم حيّ من القصف، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على شدة الإصابات في قوات حفتر. فهل هذا التصعيد من سلاح الجو التابع لحكومة السراج وهذا العنف في قصف المدينة "العاصمة" يدلان على تطور جديد في المسار السياسي؟
جاء في جريدة ليبارسيون الفرنسية: "إن القوى الأجنبية لعبت دورا في حرب طرابلس أكثر من الليبيين أنفسهم". وصرّح كبير الباحثين في معهد واشنطن للشرق الأوسط: "لا حل دبلوماسي مع حفتر". غير أن السفير الأمريكي الجديد في ليبيا ريتشارد نورلاند في مقابلة مطولة مع جريدة الوسط الإلكترونية يلخص موقف بلاده كما يزعم: "في إنهاء القتال فورا والانخراط في عملية المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة...". علما بأن بعثة الأمم المتحدة ترأسها الأمريكية ستيفاني ويليامز بعد غسان سلامة. غير أن هذا السفير يمارس الخداع والكذب في ادعائه بأن أمريكا تريد إنهاء القتال فورا. في الوقت الذي تمسك أمريكا بأطراف الأزمة الليبية بعد تقهقر التأثير الأوروبي في الأزمة ودخول تركيا على خط الأزمة وهيمنتها على القوى الفاعلة في الغرب الليبي وهي ما قامت بهذا الدخول إلا بعد رضا ودفع من أمريكا لإخراج أوروبا من الساحة الليبية وهي تتحرك ضمن الفلك الأمريكي في المجال المسموح به لها.
ولا ننسى أن حفتر رجل أمريكا وعميلها ومدعوم من عملاء أمريكا السيسي وسلمان وبعثة الأمم الآن هي بقيادة أمريكية.
إذن ما الذي يعيق أمريكا لو أرادت إيقاف الحرب والجلوس على طاولة المفاوضات؟
لا شيء يعترض طريقها ولا أحد يقوى على ذلك. ولكن يبدو أن الهدف هو تحقيق الإنهاك والتدمير الكامل لمقومات البلد كما أشارت إلى ذلك كريستين لافارد مدير عام صندوق النقد الدولي في تعليق لها على نتائج الحروب المتفشية في المنطقة: "هي حروب على اقتصاديات الدول وتفقيرها وتجويع شعوبها وتجريدها من قوتها المالية... لجعلها غير قادرة على شراء طلقة واحدة، وعدم تمكنها من تسديد رواتب موظفيها ومنهم العسكريون وقوى الأمن لتظهر قوى مسلحة خارج القانون تنتهك القانون وتسلب الناس وتسير الفوضى وتأخذ الأتوات".
وعند رصدنا الأعمال العسكرية التي تمت منذ الخامس والعشرين من شهر آذار/مارس حتى اليوم نجد أنها أحرزت بعض التغيير، فقد كانت من جهة ضربات موجعة لقوات حفتر ومن جهة أخرى لا زالت قوات حفتر قريبة من أسوار طرابلس العاصمة، بل وأصبح خطرها على المدنيين. وهي تستمر في قصف الأحياء الآهلة بالسكان حتى لحظة كتابة هذه المقالة. مما يشعرنا بأن هذا الوضع مطلوب الإبقاء عليه للضغط على السكان من أجل تبرير القبول بحفتر مفاوضا ومشاركا. وقد نفهم هذا من خلال تصريح وزير خارجية تركيا قبل أسبوعين من أن "تدخل تركيا أوجد توازنا في القوى على الأرض". إذاً من أهداف العملية التركية إيجاد هذا التوازن بين القوى المتحاربة ليستمر القتال ودوامة القتل والتدمير، ولذلك تشهد البلاد أن أمثال السيسي وسلمان عميلي أمريكا يكدسون الأسلحة والعتاد وعصابات القتل التي أتوا بها من مشارق الأرض وجنوبها وشمالها من روس وسوريين ومصريين وسودانيين كمرتزقة يمارسون القتل ليل نهار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ورغم أن حكومة السراج امتلكت من الوسائل الكافية لإحراز انتصار ولو جزئي في المحاور، غير أنه لم يحصل أي تقدم، بل تسجل الوقائع كثيرا من الإهمال "المقصود" في تزويد محاور القتال بالذخيرة، وكثيرون يتهمون حكومة السراج بأنها هي من يسمح لقوات حفتر بتحقيق إصابات بليغة في صفوف المقاتلين المدافعين عن طرابلس.
إن هذا الحال يعزز الرأي القائل بأن الحرب المقصود منها تعميق حالة الإنهاك المستمر لمقدرات البلد.
ولعل الهدف الثاني من الحرب هو القضاء على أكبر عدد من القوى الشبابية في البلد من الذين يحملون السلاح. فالقضاء على هذه الشريحة من أبناء الأمة هدف لجهات عدة داخلية وخارجية، فطرفا الصراع في الداخل؛ حفتر أو ما يطلق عليه زورا "القيادة العامة" وحكومة الوفاق، على وفاق في القضاء على هذه الشريحة من طاقات الأمة. ظنا منهما أن ذلك يسهل عملية السيطرة لاحقا على هذا الشعب كما هي بقية شعوب المنطقة التي تجري فيها عملية التدمير المماثلة.
كلمة أخيرة لحملة السلاح من أبنائنا والقوى المدنية المؤيدة لهم، من خلال ما سبق ذكره يظهر بوضوح لا لبس فيه أن هذه الحرب ليست إلا تدميرا للذات وقضاء على مقدرات ومقومات الحياة في البلاد، وهدم للعلاقات بين الإخوة وزرع للبغضاء والشحناء بين المناطق والجهات ليضمن العدو "الغرب" عدم القدرة على التوحد والعيش معا من جديد.
فاتقوا الله في أنفسكم وفكوا ارتباطكم بالأجنبي واعملوا على التخلص من العملاء في صفوفكم والذين ربطوا مصيركم بالمستعمر، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ فاستجيبوا لنداء ربكم تعصموا دماءكم وتنقذوا أنفسكم وبلادكم من براثن عدوكم.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع