جاءت زيارة السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند لخليفةحفتر يوم الثلاثاء 18 شباط/فبراير 2020 في أول زيارة لمبعوث أمريكي لشرق ليبيا منذ مقتل السفير الأمريكي في هجوم على السفارة الأمريكية بطرابلس عام 2012، لتؤكد اصطفاف الولايات المتحدة وراء رجلها في ليبيا، بعدما همشت حكومة الوفاق المعترف بها دوليا ووعدتها باللقاء عندما تسمح الظروف الأمنية، فقد أعلنتالسفارة الأمريكية أن السفير نورلاند يتطلع لزيارة طرابلس للقاء رئيس المجلس السيادي لحكومة الوفاق الليبية فايز السراج حالما تسمح الظروف الأمنية.
لم تكن هذه الصفعة الأمريكية هي الأولى من نوعها لحكومة الوفاق ومن يقف خلفها، فقد أعلن ترامب صراحة وقوفه مع خليفة حفتر في اتصال هاتفي مع هذا الأخير على إثر هجومه على العاصمة طرابلس في 4 نيسان/أبريل 2019 للسيطرة على المنطقة الغربية لليبيا الخاضعة لحكومة السراج، حيث اعترف ترامب في ذلك الاتصال الشهير بدور خليفة حفتر الجوهري في مكافحة (الإرهاب) وتأمين موارد ليبيا النفطية.
وقد تزامن لقاء السفير بهجوم قوات خليفة حفتر على ميناء طرابلس الذي يعتبر البوابة الرئيسية لعبور الغذاء والدواء والوقود في خرق واضح للهدنة الهشة التي تم التوصل إليها في 12 كانون الثاني/يناير 2020، وهو ما يعد رسالة للسراج وأوروبا من خلفه، أن لا استقرار في العاصمة بدون رجل أمريكا في ليبيا، وهو ما دفع حكومة الوفاق للانسحاب من محادثات وقف إطلاق النار في جنيف يوم الثلاثاء، كما زار السراج الميناء الذي تعرض للقصف يوم الأربعاء وخاطب الصحفيين في ميناء طرابلس بقوله: يجب أن تكون هناك أولا "رسالة واضحة من كل الأطراف الدولية التي تحاول أن تتحدث معنا" في إشارة واضحة للسفير الأمريكي الذي التقى به في وقت لاحق.
وتتنازع السلطة في ليبيا منذ 2015 حكومتان، حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة وتدعمها بريطانيا ومقرها طرابلس، وسلطة موازية في الشرق مدعومة من رجل أمريكا خليفة حفتر الذي أطلق في منتصف أيار/مايو 2014 عملية عسكرية تدعى "كرامة ليبيا" في بنغازي، وانتقلت لاحقا إلى العاصمة طربلس.
وهكذا منذ سنة 2014 إلى اليوم والصراع الدولي مشتد بين قطبين رئيسيين هما أمريكا وبريطانيا مع وجود دول أخرى تتقلب بين القطبين حسب مصالحها. وقد وصف هذا الواقع وزير الخارجية الإيطالي دي مايو في ندوة صحفية انعقدت يوم الأحد 16 شباط/فبراير 2020، بعد "مؤتمر ميونيخ" حول ليبيا الذي انبثق عن "مؤتمر برلين"، وناقش مراقبة حظر السلاح، بأن الحرب في ليبيا ليست حربا أهلية وإنما حرب بالوكالة، وأنه لا بد من وقف وصول الأسلحة إلى الفرقاء هناك.
لقد استطاعت أمريكا أن تخترق حصن بريطانيا الحصين الذي بقي عصيا عليها لعقود عدة، خاصة بعدما جدد حفتر حملته على طرابلس في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019، حاثاً قواته على التقدم باتجاه قلب العاصمة لخوض المعركة الحاسمة حسب قوله، وكان ذلك بتدخل ودعم روسي مباشر عبر مرتزقة الشركة الأمنية الروسية "فاغنر" المقربة من بوتين والتي تتعاون مع الجيش الروسي ويوكل إليها المهمات القذرة، مما دفع السراج، لعقد اتفاق مع تركيا للتدخل العسكري لصالح رئيس حكومة الوفاق، فكان دخول روسيا وتركيا على الخط سبباً دفع أوروبا للتحرك ودعوة ألمانيا لاجتماع برلين.
وقد أكد سفير ألمانيا بتونس أندرياس رينكيه يوم الخميس 16 كانون الثاني/يناير 2020، أن الغاية الأولى من اجتماع برلين "هو إقناع المتدخلين الخارجيين بمغادرة ليبيا وتركها لليبيين"، وهو ما يؤكد أن انطلاق مسار مؤتمر برلين، ثم اجتماع الجزائر بين دول الجوار الليبي، كان يستهدف أساسا القوى الأجنبية المتداخلة عسكريا في ليبيا، وبخاصة روسيا وتركيا، للمحافظة على النفوذ الأوروبي من النفوذ الأمريكي الذي يريد أن يستخدم العصا الغليظة الروسية لتأديب حكومة الوفاق وترويض القوى التي تدافع عنها من خلال الاختراق التركي الذي نجح أيما نجاح في احتواء فصائل الشام، ويؤمل منه أن يفعل الشيء نفسه في احتواء فصائل ليبيا الإسلامية كفجر ليبيا وغيرها.
فدخول روسيا وتركيا مؤخرا لا يمكن أن يكون إلا بضوء أخضر أمريكي، ليضطلعا بالدور نفسه الذي لعباه في سوريا، حيث أبديا نجاحا منقطع النظير في وأد الثورة السورية والحيلولة دون سقوط بشار عميل أمريكا، وهو ما يعد من أشد الاختراقات التي حققتها أمريكا في ليبيا، حيث أصبحت روسيا وتركيا، (وهما في صف أمريكا) من الفاعلين في مفاوضات الحل، وقد أشارت جريدة "لوموند" الفرنسية إلى ما تسميه "برميل البارود الليبي على أبواب أوروبا"، والذي يهدد بالتحول إلى صراع دولي وكارثة إنسانية مماثلة لتلك الموجودة في سوريا، وأضافت لوموند: "لقد حان الوقت للمجتمع الدولي، خاصة الأوروبيين، لاتخاذ مبادرات لمحاولة منع هذه الدوامة الخطيرة"، واصفة مؤتمر برلين الذي انعقد في 20 كانون الثاني/يناير 2020 بـ"الحدث الإيجابي".
وقد نص مؤتمر برلين على إعلان مشترك مكون من 55 نقطة، من أهمها: وقف دائم لإطلاق النار، واحترام الحظر المفروض على توريد الأسلحة إلى ليبيا، واستئناف العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، وإصلاح قطاع الأمن، إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية والمالية واحترام القانون الإنساني وحقوق الإنسان، وقد تبنته 11 دولة وأربع منظمات دولية التي شاركت في قمة برلين.
وبالرغم من أن المشاركين في المؤتمر اتفقوا على إنشاء لجنة متابعة دولية تجتمع شهريا لتقييم تنفيذ توصيات المؤتمر، فإن خرق الهدنة في ساحة المعركة على جبهة طرابلس بلغ 150 خرقا منذ 12 كانون الثاني/يناير الماضي حسب المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، وهو ما يثبت هشاشة هذه المخرجات، كما أن اجتماع الجزائر الذي انعقد الخميس 23 كانون الثاني/يناير 2020 لم يغير من الأمر شيئا، فأقطاب الصراع الأمريكي-البريطاني ومن لف حولهما سيستمر ولن يتوقف ما لم يُقطع دابره على أيادي المخلصين من أحفاد عمر المختار، فالشعب الليبي بقواه الحية وحده القادر على إفشال مساعي الدول الكبرى في السيطرة على ليبيا ومقدراتها، وذلك إذا ما تحركت سريعا في عملية تجميع للقوى تحت قيادة سياسية مخلصة وواعية تملك مشروعا حضاريا إسلاميا تحرريا من كل القوى الاستعمارية، فالدول الكبرى تنجز مشاريعها على أكتاف العملاء والأغبياء من أبنائنا! ونحن نستصرخهم أن الوقت أصبح مناسبا لقلع النفوذ الأجنبي وأدواته المحلية. قال تعالى: ﴿وَلَيْنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
بقلم: الدكتور أسعد العجيلي
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع