تشهد الجزائر في هذه الآونة حالة استنفار على مستوى الجيش وتحركاً دبلوماسياً ملحوظاً واتصالاتٍ مكثفةً يقوم بها الرئيس الجديد عبد المجيد تبون على الصعيد الخارجي بغرض احتواء الوضع المتأزم في ليبيا التي ينهشها الصراع الدولي. إلا أن النظام الجزائري يواجه أيضاً أوضاعاً صعبةً وتحديات كبيرةً على الصعيد الداخلي، مما يتطلب حلولاً مستعجلةً لتعزيز حالة الاستقرار النسبية وتقوية الجبهة الداخلية لتتمكن الجزائر من لعب دورها المعهود على الساحة الإقليمية. ولكن لصالح مَن؟
فقد أفاد بيان للرئاسة الجزائرية نشرته وكالة الأنباء الرسمية يوم 06/02/2020م أن الرئيس عبد المجيد تبون أصدر مرسوماً رئاسياً ثانياً بالعفو عن 6294 سجينا ممن بقي من محكوميتهم 18 شهراً أو أقل، ليرتفع بذلك عدد المُعفى عنهم خلال شهر شباط/فبراير الجاري إلى نحو عشرة آلاف سجين، في سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ الجزائر. وقد استثنى المرسوم الرئاسي الأشخاصَ المحكوم عليهم في قضايا عديدة منها "الإرهاب" والخيانة والتجسس والقتل والمتاجرة بالمخدرات وجرائم الفساد المالي وغيرها. وكان مرسوم العفو السابق الصادر يوم 01/02/2020م قد تضمن العفو عن 3471 سجيناً ممن تساوي عقوبتهم ستة أشهر أو تقل عن ذلك. إلا أن البيان الرئاسي لم يفصح عما إذا كان قرار العفو هذا يشمل مَن جرى توقيفُهم في مظاهرات ومسيرات الحراك الشعبي الذي تشهده البلاد منذ شهر شباط/فبراير من السنة الماضية. علماً أنه لم ترد أيضاً في قائمة الاستثناء تهمة "تهديد الوحدة الوطنية"، في إشارةٍ إلى رفع الراية الأمازيغية بدل الراية الوطنية خلال الاحتجاجات. وتأتي هذه الخطوة ضمن إجراءات التهدئة وتدابير صانعي القرار في أعلى الهرم التي تهدف في الظاهر إلى تلبية أحد أهم مطالب المتظاهرين في الشارع والعديد من الأحزاب والمنظمات الحقوقية ومن جميع الأطراف المناوئة للسلطة، التي لطالما اعتبرتها من أبرز شروط إنجاح الحوار الذي دعا إليه رئيسُ الجمهورية عقب توليه الرئاسة، وقد شرع رئيس الجمهورية بالفعل هذه الأيام في استقبال عدد من رؤساء الأحزاب والهيئات التي تدور في فلك السلطة، الذين هرولوا للقائه، بل وحتى من الشخصيات السياسية المحسوبة على المعارضة في الظاهر، التي كانت إلى عهد قريب مؤيدةً للحراك المنادي بالتغيير الشامل وترفض الحوار مع سلطة الأمر الواقع.
يذكر أنه من خلال تبني فكرة مرافقة الحَراك الشعبي وخدعة الاستجابة لمطالبه منذ انطلاقته، والتحذير من مخاطر عدم الاستقرار ومن عواقب تأجيل انتخاب رئيسٍ للبلاد، والتحذير من الفوضى ومن عدم العودة إلى المسار الدستوري في أقرب الآجال، نجحت السلطة الفعلية المتمثلة في المؤسسة العسكرية الممسكة بالبلد من إمضاء خارطةِ الطريق المرسومة المتمثلة أولاً في إجراء الانتخابات الرئاسية، رافضةً أية مرحلة انتقالية لطالما طالب بها الخصوم. كما يجب التذكير بأن المؤسسة العسكرية الحاكمة تمكنت من الوصول بسرعة إلى محطة تنظيم الانتخابات الرئاسية وإجراء الاستحقاق في موعده بعدما كانت قد ألقت بكل ثقلها في الساحة السياسية من خلال خطابات رئيس الأركان الجزائري السابق من مختلف الثكنات في النواحي العسكرية حتى في أقصى جنوب البلاد عبر أشهر، وعبر الالتفاف على الحراك الشعبي بعد تهيئة الأجواء وامتصاص غضب الناس في الشارع وضرب الخصوم ونعتهم بأذناب الاستعمار الفرنسي، أي عبر تصفية الخصوم ومحاسبة الفاسدين الذين أنتجتْهم المنظومة نفسُها.
ولكن من الواضح أيضاً أن من أهم أسباب الإصرار والتعجيل بتنصيب الرئيس والإسراع في تثبيت الوضع في الجزائر على أمل الانتهاء من الحراك وإخماده، أن تتمكن المؤسسةُ الحاكمة في البلد بتدبير من الأوروبيين من مواجهة تداعيات الوضع المتأزم في الجوار الإقليمي شرقاً وجنوباً، أي في ليبيا ودول الساحل الأفريقي، بعد استفحال الأزمة في ليبيا وإصرار عميل أمريكا حفتر الذي تدعمه عبر وكلائها في المنطقة وعبر روسيا لتمكينهمن البلاد لفائدة أسياده. وليس سراًّ أن ليبيا-القذافي كانت سياسياً تابعةً لبريطانيا وكانت لعقود طويلة كياناً ضعيفاً هشّاً لا يمتلك مقومات الدولة إلا شكلا. وليس من قبيل الصدف أن يصرح عبد المجيد تبون مباشرةً بعد أن أصبح رئيساً للجزائر بأن "طرابلس خط أحمر!"، إذ هي رسالة يفهمها جيداً داعمو حفتر إقليمياً ودولياً! وليس أيضاً تحركاً ذاتياً لصالح أهل المنطقة ككل أن ينطلق تبون في عملية سريعةٍ لاسترجاع الدور الإقليمي الذي كانت تضطلع به الجزائر بأوامر أوروبية بعد غياب طويل عن الساحة، بغرض تثبيت حكوماتِ دول الجوار التابعة لأوروبا من خلال إسناد قبائل الجنوب في الصحراء، وبالأخص لتثبيت حكومة الوفاق في طرابلس الغرب "المعترف بها دولياً" برئاسة فايز السراج بغرض تشكيل حزام أمني عازل وقطع الطريق على أمريكا وحرق أوراقها وخاصة ورقة مكافحة تنظيم الدولة أو مثيلاتها في المنطقة وإبطال مفعول خططها للتمدد نحو دول الساحل الأفريقي الهزيلة التي كانت نهباً لبريطانيا وفرنسا منذ أمد بعيد. وذلك بحكم أنها التي لم تمتلك يوماً جيوشاً قويةً رادعة، ولن يكون بمقدورها مواجهة تمدد النفوذ الأمريكي على أي صعيد، خاصةً وأن الصين وروسيا أيضاً تسعى كل واحدة منهما على طريقتها للتمدد نحو أفريقيا، وهو بعض ما حمل ساسةَ الإنجليز على التصميم لإمضاء البريكست لتتحرر بريطانيا من قيود الاتحاد الأوروبي وتتمكن من الانطلاق في تعزيز وجودها ونفوذها فيما بقي لها من القارة، وبهدف المحافظة على مصالحها ومستعمراتها فيها.
وهذا هو ما يفسر حالة الاستنفار في جيش الجزائر إزاء الوضع على الحدود الشرقية من جهة الجنوب تحت غطاء إرسال المساعدات الإنسانية وحراسة الحدود ومحاربة (الإرهاب) ومكافحة التهريب، كما يفسر سرعة التحرك على الصعيد الخارجي، ومنه الحضور الجزائري على الساحة الأفريقية خاصة. ومن ذلك أيضاً دعم دول شمال أفريقيا التابعة لأوروبا لتفعيل اتفاق الصخيرات في المغرب الذي شمل أطراف الصراع في ليبيا وتم توقيعه تحت رعاية أممية بتاريخ 17/12/2015م، وكذا تضافر جهود الأوروبيين لمنع التصعيد العسكري، ومن ذلك سعي بريطانيا الحثيث لتفعيل مخرجات مؤتمر برلين الأخير بشأن ليبيا في أروقة مجلس الأمن. ولكن حفتر يأبى إلا أن يصعد عسكرياً واقتصادياً بأوامر أمريكا من خلال فرض الحصار عبر السيطرة على موانئ تصدير النفط، حتى تنال أمريكا ما تريد في ليبيا ولو جزئياً أو مرحلياً.
ومن جهة أخرى فإن مهمة الرئيس الجديد الذي جاءت به المؤسسة العسكرية في الجزائر بلعبة ذكية عبر الصناديق، لن تكون سهلة حتى على الصعيد الداخلي أيضاً، إذ إن فوزه في الاستحقاق الرئاسي الأخير الذي رتبته له الزمرةُ النافذة يجسد على أرض الواقع استمرارَ الزمرة نفسها في الحكم. فبالرغم من تمرسه في الإدارة لعقود طويلة إبان حكم بوتفليقة وقبلَه، وبالرغم من حرصه على تنصيب حكومة كفاءات برئاسة عبد العزيز جراد للتصدي لمعضلات البلاد على كافة الأصعدة، إلا أن تبون سيكون حتماً في مواجهة اختبار تحقيق وعوده الانتخابية التي يأتي على رأسها حل معضلة النهوض بالاقتصاد والقضاء على الفساد المالي والإداري، واسترجاع الأموال المنهوبة التي قال أثناء حملته إنه يعرف كيف يستردها، وحل مشكلة البطالة في أوساط الشباب خاصة من حاملي الشهادات، وبعث المنظومة التعليمية والصحية وتطهير جهاز القضاء وغير ذلك. وإذ صرح بأنه يريد إنشاء "جزائر جديدة" بعد انتخابه رئيساً، وأن من أولوياته إجراء تعديلات دستورية تحد من صلاحيات الرئيس، وإدخال تغييرات جذرية على قانون الانتخاب في قابل الأيام، فإن الجزائر سوف تكون بلا شك على موعد مع فصول جديدة من التحولات والصراعات داخلياً وخارجياً.
ومع أن الحراك الشعبي المصمم على مطالبه في الشارع لا يزال مستمراً خاصةً في العاصمة الجزائرية وبعض المدن الرئيسية، إلا أنه فقد الكثير من زخمه، ليس بسبب نجاح السلطة في إبعاد وتحييد الخصوم فحسب، بل بحكم أنه لم ينطلق أصلاً على أساس مطلب تحقيق مشروع الأمة بالعودة إلى الإسلام على مستوى الحكم، وإنما انطلق منذ البداية برفع شعارات وعناوين ومطالب عامة غير واضحة المعالم ولا محددة المرجعيات والبدائل، كرفع الظلم وتغيير منظومة الحكم ورحيل كل رموز الفساد وتحقيق دولة الحق والقانون وإبعاد العسكر عن السياسة وتحقيق المصالحة بين الجزائريين وإصلاح جهاز العدالة وتحسين الأوضاع المعيشية وغير ذلك. ومع أن الحراك في الشارع استعاد ظرفياً بعض قوته وحيويته مع حلول ذكرى انطلاقته السنوية هذه الأيام، إلا أنه بالتأكيد لن يذهب بعيداً في تحقيق التغيير المنشود، خاصةً وأن المتظاهرين والمحتجين تركوا الإسلام جانباً وتمسكوا بمطلب الديمقراطية والدولة المدنية،وهو ما يعني عدمَ تفعيل وتفجير القوة الحقيقية الكامنة في الأمة، الأمر الذي لن يحصل إلا بتحديد المرجعية الفكرية والسياسية القادرة على تجسيد التغيير المطلوب على أساس هوية الشعب في الجزائر، أي بتفعيل انتمائه لأمة الإسلام وباستجلاب النصر والتأييد من الله وحده، مع صحة التوكل والعمل والصبر والثبات، حتى في حال الشدائد والأزمات.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع