تحدثنا في الجزء السابق عن أزمة وجودية وخطيرة وكيف كان تعامل النظام معها بإجراءات معينة انحناء للعاصفة الخطيرة، وبرزت آنذاك فكرة العودة إلى تمكين الشعب من الحكم من خلال المشاركة بالسلطة من خلال وعود، والدعوة إلى ميثاق جديد والحكومة البرلمانية، وكان الهدف الحقيقي من وراء هذا الميثاق هو إلغاء أي دور حقيقي للأمة بالتغيير وشراء الوقت وخداع الناس من خلال تضليلهم بأنهم شركاء بالحكم وأن دور المؤسسة الملكية هو أنها الحافظة للنظام والدستور والضمانة الحقيقية لعدم انزلاق الأردن نحو الفوضى، لذا اختير الأعضاء المشاركون بالميثاق بعناية فائقة وكانوا من رجالات النظام واتفقوا جميعا على نقاط ميثاق معين لا يعدو كونه حبرا على ورق، لا قيمة له ولا يساوي ثمن الورق المسطر فيه وإنما هو ميثاق إجرامي من أجل منع أي تغيير حقيقي في الأردن.
لذا أصدر حزب التحرير آنذاك (2/1/1991م) نشرة بعنوان "الميثاق الوطني يناقض الإسلام ويجب رده"، بيّن فيها حقيقة هذا الميثاق، حيث ورد فيها:
"أيتها الأمة الكريمة:
أمس الأول اجتمعت اللجنة المكلفة بوضع الميثاق بالملك، وقدمت له مشروع الميثاق الوطني الذي أمرت بصياغته بشكل يمكن من خلاله سد الثغرات التي في الدستور حتى لا يبقى لأي حزب مجال للتعبير عن رأيه وفكره الذي يقتنع به إن لم يكن متفقا مع الدستور، وخرج الميثاق ليكون ضابطا من ضوابط الدستور يرجع إليه عند سن القوانين، وجاء لا يستند إلى قواعد ثابتة لها أصولها العقائدية، وقد أشارت بعض نصوصه إلى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أن التفصيلات القانونية فيه لا تدل على ذلك بل هي تتعارض مع الإسلام ولا علاقة لها بالإسلام كقاعدة للتفكير وأصل للتشريع، وكذلك كرس الميثاق بقاء بلاد المسلمين مجزأة حسب اتفاقية سايكس - بيكو، وكرس فك الارتباط مع الضفة الغربية، وركز على القومية والوطنية والديمقراطية المسؤولة، وجعل المرجعية للدستور وأغفل عن قصد وتعمد أن يكون القرآن والسنة أصلا للتشريع، وجعل الكتاب الوحيد هو الدستور..."
ومن ناحية سياسية لا بد من ذكر أن من وقف في وجه الحكومة البرلمانية بالأردن هم يهود وليس فقط الإنجليز لأنهم، أي اليهود، يخشون من تسليم الحكم للشعب الذي يعتبر العداء مع يهود عقائديا وليس حدودا ومصالح ودورا وظيفيا، ويتطلع ليوم يقضي فيه على كيان يهود، لذا وقف اليهود مع الإنجليز ضد فكرة تسليم الشعب لأي شكل من أشكال الحكم لأن الضامن لبقاء يهود والحامي لهم هو النظام وليس غيره، لكن الولايات المتحدة رأت في الحكومة البرلمانية أسلوبا مساعدا لها في اختراق الأردن وتحديد سلطة الإنجليز والمشاركة بالحكم من خلال أحزاب معينة أوعزت لبعض عملائها بتأسيسها من أجل التحضير لمرحلة الحكومة البرلمانية، واللافت للأمر أن النظام رد بإنشاء أحزاب من وسطه تحضيرا للمرحلة القادمة الموعود بها، دلالة على أنه مع توجه يهود في عدم تمكين الشعب من الحكم ولو كانوا من جماعته لأن الناس لن تنتخب حزبا لا يطرح مسألة إلغاء وادي عربة ولا إعادة حالة العداء ولن يقبل بمثل اتفاقية الغاز وغيرها، لذا كان النظام حقيقة يتعامل مع الطرح الأمريكي بالانحناء له لكن مع عدم السير به بدوافع سياسية واستراتيجية وأمنية، وكانت أمريكا تدرك تلاعب الأردن بمسألة الوقت فلما سافر رأس النظام تحدث من واشنطن عن الحكومة البرلمانية مجرد حديث للصحف حتى إذا عاد اختار هو الحكومة تحت مزاعم أنها تمت بمشاورة البرلمان.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع