صنع الغرب المستعمر، في القرن الماضي، دويلات هزيلة، عقب تشريح جسد الأمة، وتقطيع أوصالها! وأمعن في إضعاف هذه الدويلات، بحكومات ربطها بمنظومته الرأسمالية؛ لتظل خاضعة لأوامر مؤسساته الاستعمارية التابعة له، فأوجد بذلك أرضية للتدخل المباشر في قضايا البلاد وذلك بسبب غياب الخلافة.
بل ذهب الغرب المستعمر أبعد من ذلك، حيث أنشأ، بجانب الحكام العملاء، حركات مسلحة، فأنشأت أمريكا الحركة الشعبية في جنوب السودان في العام 1983م، تبعتها حركات أخرى في غرب السودان، وتكتلات غير مسلحة في شرقه، ووسطه، وشماله، يعملون كلهم لخدمة الغرب المستعمر، ويتنافسون في ترضيته، وما حال الحكومة الانتقالية بمجلسيها (السيادي والوزراء) إلا دليل على ذلك، بالرغم من أن السودان يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً في أفريقيا، ومساحة شاسعة، ويقابل هذا الاتساع الجغرافي، اتساع في الموارد، والإمكانيات الهائلة، ما يجعله مؤهلاً لأن يكون أكبر بلد منتج لمختلف المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، ويمكن أن يوفر ما يحتاجه كثير من شعوب العالم من الأمن الغذائي، الذي لا يقل أهمية عن الأمن العسكري.
ولا تقتصر ثروات السودان على المجال الزراعي، بل إن جوفه يمتلئ بمعادن ضرورية لتحريك عجلة الصناعة كالذهب والكروم والنفط واليورانيوم، وغيرها، فهو يملك مقومات الدولة الكبرى بكل معنى الكلمة، وكان حمدوك قد أكد ذلك عقب تسلمه رئاسة الوزراء في آب/أغسطس 2019م، وقال إن السودان بلد غني بالموارد ولن يحتاج إلى المعونات والهبات.
لكن عندما تغيب الدولة المبدئية التي تدير هذه الثروات لصالح الناس، وتحافظ عليها، وترتقي بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة تنقلب هذه النعمة إلى نقمة، حيث إن الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان، سارت بالبلاد بأنظمة علمانية عميلة، أغنت الحكام، وأفقرت سائر الناس، فتفاقمت مشاكل السودان، فكان من الطبيعي أن يتحرك الناس يطلبون حياة كريمة؛ لذلك لم يكن غريباً أن يتدخل المستعمر، فقد قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أخيم شتاينر، لوكالة الصحافة الفرنسية خلال زيارته للسودان: "عندما تعمد حكومة ما إلى تركيع شعبها لعقود، فمن البديهي أن يلتفت هذا الشعب بعد ذلك إلى المجتمع الدولي، ليكون جزءاً من جهود إنهاضه، وأعتقد أن هذا ما يدفعنا إلى تصويب الأنظار إلى السودان في الوقت الراهن". (الشرق الأوسط 31/1/2020م).
وبما أن هذه الحكومات، والحركات المسلحة، والتكتلات غير المسلحة، غربية المنشأ، وغربية المبدأ والولاء، وغربية الدعم، كان من الطبيعي أن ترتمي في شراك الدول الاستعمارية، وفي حبال اللاعبين الدوليين، وبخاصة أمريكا وبريطانيا، فتصبح بمجموعها، أدوات للمستعمر، تتصارع بها الدول المتنافسة في المسرح السياسي في السودان.
أما الجنوب فقد خلقت بريطانيا واقع الانفصال في وقت مبكر منذ العام 1922م بقانون المناطق المقفلة، وكانت نظرتها تقوم على أساس تشريح السودان إلى كيانين، عربي مسلم في الشمال، والآخر (نصراني - وثني) في الجنوب، وهو الأساس نفسه الذي تبنته أمريكا، فجيء بالحركة الشعبية، التي تاجرت بقضية الجنوب، وسارت مع أمريكا حتى بترته عبر عميلها البشير، وبرعاية الاتحاد الأفريقي الذي لا يزال يحشر أنفه في ملفات السلام الحالية.
ثم اشتعلت دارفور، وتفاقمت مشاكلها، وتخبطت الحكومة البائدة في معالجتها، فقامت بمعالجات أخذت منحى الترضيات والمحاصصات، واحتضان بعض مسلحي دارفور، كما في اتفاق الدوحة، وإلقامهم لقيمات من الثروة المنهوبة، وقد بالغ البشير في اصطناع كراسي وهمية، وقرّب إليه أسطولاً من المستشارين في القصر الجمهوري، والوزارات، أرهقت كاهل اقتصاد السودان. ثم انتهى حكم البشير، بعد تخبطه في ملفات السلام التي كانت أكذوبة الأكاذيب، فكانت معالجاته وبالاً على السودان واقتصاده وأمنه شمالاً وجنوباً، واتسعت رقعة الحرب، ولم تسلم حتى الخرطوم من لسعاتها، وبورتسودان، والجنينة، وتناسلت الحركات المسلحة حتى فاقت الثلاثين في نهايات عهده.
ثم أقدمت الحكومة الانتقالية الحالية، وجعلت من قضية السلام عصا سحرية تسير بها لمعالجة قضايا البلاد، باعتبار ملف السلام ضمن المطلوبات الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة (الإرهاب)، غير أنها استنسخت تجارب النظام السابق نفسه، وبرز ذلك في مفاوضات جوبا، التي تسير في مسارات إقليمية منفصلة. وإمعاناً في تركيز التفرقة بين أبناء البلد الواحد، وُضعت المفاوضات على خمسة مسارات هي: إقليم دارفور، ولايتا جنوب كردفان والنيل الأزرق، وشرق السودان، وشماله، ووسطه! لتهيئة هذه المناطق للانفصال عن بعضها. وقامت بتوقيع اتفاقيات إطارية مع بعض هذه المسارات، اشتمل على نقاط خطيرة منها: "منح ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وضعا خاصاً"، و"السماح لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بسن قوانينها"، وهذا يعني البدء في تأسيس دويلة تنفصل عن المركز بقوانينها وتشريعاتها. إن مثل هذه النصوص لا تعنينا نحن المسلمين، فبين يدينا كتاب الله ينطق بالحق، فلا حاجة لنا بقوانين تسنها مجالس وبرلمانات، ثم ليس هناك وضع خاص لهاتين الولايتين غير فداحة الظلم الذي يعانيه أهل السودان كلهم، جراء الأنظمة العلمانية السابقة والحالية، وهذا يُرفع بنظام عادل لا بمؤامرات غربية.
ثم إن هذه الاتفاقية مضطربة في بنودها، ففي الوقت الذي يتكلمون فيه عن وحدة شعب السودان وأرضه، يقرون في الوقت نفسه بنظام الحكم اللامركزي، تنفصل أقاليمه بالاستقلال الذاتي، تماماً كما في كردستان العراق، التي لم يبق لها إلا إعلان الانفصال من داخل برلمانها إذا رأى الغرب ذلك! أما بقية البنود فهي عبارة عن إجراءات إدارية تصلح لأن تقدم للوزراء، ومدراء الإدارات كل فيما يتعلق بوزارته، أو بدائرته، مثل النصوص المتعلقة بالأراضي، وتعويضات ضحايا الحرب، والمدارس والمشافي، والتوطين، وغيرها.
وهناك أمر آخر خطير فيما يتعلق بملف السلام، وهو كونه تحت إشراف لجنة الوساطة: (الأمم المتحدة، واليوناميد، ودويلة جنوب السودان)، والركون إليهم في قضايانا، فهذا أمر لا يجوز شرعاً، ويؤذن بمزيد من المآسي، ويعني تعريض السودان للتفتيت في نسخته الثانية، عبر المطالب الإقليمية، وظهور نداءات باسم ممالك وثنية عفى عليها الزمن مثل (كوش) وغيرها! ويعني كذلك تغيير الهوية، وإعلان علمانية السودان صراحة. ويبرز ذلك في موقف الحركة الشعبية، والوثيقة الدستورية للحكومة الانتقالية على السواء. قال عضو المجلس المركزي للتحالف، صديق يوسف، لـ"سودان تربيون" 22/12/2019م، "إن برنامج قوى الحرية والتغيير قائم على المواطنة، وإن ما طرحه الحلو متوافق تماماً مع الوثيقة الدستورية، وأشار إلى عدم وجود خلاف حول الأمر".
وختاماً، فإن المحطات التي تمر بها مفاوضات جوبا، والبنود المطروحة، والتي تم التوقيع عليها، والمزمع مناقشتها في المؤتمر الدستوري، في نهاية الفترة الانتقالية، تصب في خانة واحدة، وهي المتاجرة بقضايا أهل السودان، لصالح مخططات الدول الاستعمارية، وإن بروز أفكار الحكم الذاتي، والفدرالية، وحق تقرير المصير، المطروحة في طاولة التفاوض، وراءها الغرب المستعمر، وتعني عزل هذه الأقاليم عن بعضها، لتفتيتها عاجلاً أو آجلاً. وإن النظرة إلى الحكم من كونه رعاية لشئون الناس، إلى اعتباره حصصاً توزع على التكتلات، ويستأسد به حملة السلاح، ومناصب للعملاء، إن هذا أمر يفسد الحياة السياسية في البلاد، ويجعل العاملين في هذا الحقل مطية لتثبيت أقدام الطامعين في بلادنا، ولات ساعة مندم.
بقلم: الأستاذ يعقوب إبراهيم – الخرطوم
رأيك في الموضوع