أرادت أمريكا بعد تفردها بالهيمنة على الاقتصاد العالمي بُعيد الحرب العالمية الثانية أن تكون علاقتها مع الصين علاقة ترقب واحتواء، وذلك حتى قبل أن تبدأ الصين في تحسس طريقها نحو المشاركة في الاقتصاد العالمي ومحاولة اعتلاء سلمه ببطء. وما إن دارت العجلة الاقتصادية الصينية حتى كانت أمريكا تعد لها العدة وتتصيد المواقف وتفتعل المؤامرات والدسائس حتى تحجم المارد الصيني وتبقيه خارج مناطق نفوذها وأسواقها الاقتصادية العالمية الحالية والمستقبلية. واتخذت الحرب الاقتصادية الأمريكية على الصين أشكالا عديدة، فكانت وتيرتها تعلو بين الحين والآخر وتنخفض حسب الظروف العالمية والإقليمية وحسب مصالح أمريكا وتفاهماتها مع الدولة الفاعلة عالميا وحسب المستجدات السياسية والاقتصادية في العالم. ولكن أمريكا لم تترك الصين لحظة واحدة بعيدا عن أعينها المترقبة وعن مكائدها ودسائسها المختلفة. وهذا هو ديدن الدول المبدئية العظمى التي تسعى إلى بسط هيمنة مبدئها على العالم كله.
من خلال هذا السياق المختصر نستطيع أن نلقي بعض الضوء على قضية شركة هواوي، وكيف أثارت هذه الشركة حفيظة الإدارة الأمريكية ودفعتها إلى اتخاذ إجراءات تعسفية غير مسبوقة في عالم الاقتصاد المعاصر، فهذه الأخيرة تعتبر بحق إحدى أقوى الأدوات بيد الصين للولوج بقوة إلى الاقتصاد العالمي ومحاولة التربع على عرشه مستغلة سبقها التكنولوجي بتكلفة أقل وتقنية أعلى.
منذ تأسيس شركة هواوي عام 1987 كانت كغيرها من الشركات الصينية تحت مجهر الأمريكان، وكانوا يظنون في البداية أنها سوف تكتفي بتصنيع بعض المعدات والأجهزة التي تستخدم في الشبكات الرقمية، وكانوا واثقين من أنها لن تستطيع منافسة شركات تصنيع الشبكات الرقمية الغربية العملاقة مثل سيسكو إلا على المدى الطويل، وكانوا واثقين من أن سيطرتهم على أهم المصادر المهمة للمواد الأولية والمواد المصنعة التي تعتمد عليها هذه الشركة في تطوير صناعاتها سوف تساعدهم على تحجيمها متى أرادوا. ثم بدأت وتيرة الصراع مع هذه الشركة تعلو وتكبر عندما أصبحت تنافس عمالقة صناع أجهزة وأنظمة البنية التحتية للشبكات في العالم وتتعداهم الواحد تلو الآخر حتى أصبحت تحتل مراكز متقدمة عالميا في نسبة الأجهزة والأنظمة المستخدمة في الشبكات العالمية والشركات المحلية. وكان رد أمريكا أنها أدخلت الشركة في دوامة صراعات قانونية تعتمد على فهم الغرب لقوانين حقوق الملكية وتقنينها، وتمكنوا في بعض الحالات من تغريمها أموالا طائلة وأجبروها على التعهد بعدم العودة إلى سرقة مخططات الشركات الغربية. لكن هذا لم يوقف الشركة عن التوسع والانتشار، فقد أنشأت دائرة مختصة بالتطوير العلمي وأفرزت لها حوالي 70 ألفاً من أصل 180 ألف موظف يعملون لصالحها. ومع حلول القرن الواحد والعشرين تمكنت الشركة من دخول قطاع مهم وحيوي من التكنولوجيا الحديثة وهو قطاع التليفونات المحمولة أو الموبايل، واستطاعت حديثا أن تنافس الشركات العملاقة مثل أبل الأمريكية وسامسونغ الكورية، حتى إن بعض الخبراء بات يصنف مبيعاتها بالأعلى في العالم.
ولكن ليس هذا كله هو الذي أفقد أمريكا صوابها وجعلها تصيح بأعلى صوتها في العالم كله بضرورة مقاطعة هذه الشركة وقطع أيديها الممتدة في العالم، وإنما كان السبب هو إعلان هواوي مع بدايات سنة 2018 عن امتلاك تقنية الجيل الخامس (G5) من الاتصالات اللاسلكية والتي تستعمل في شبكات الموبايل العالمية، ثم إعلانها بعد سنة واحدة عن إطلاق أول رقاقة متعددة الأنماط لشبكات الجيل الخامس بالإضافة إلى طرح أول جهاز تجاري لشبكات الجيل الخامس يعتمد على تلك الرقاقة.
ولكن ما الذي يغضب أمريكا في هذا الأمر إلى حد أن تأمر شركاتها العملاقة مثل جوجل، وكوالكوم، وآرم، وإنتل، وحتى فيسبوك بمقاطعة هذه الشركة ومحاولة تحطيمها بهذا الشكل العلني الفاضح، بل واعتقال تعسفي لمديرة العمليات المالية "ابنة مؤسس الشركة" في كانون الأول/ديسمبر 2018 في كندا ومحاولة محاكمتها في أمريكا؟!
الجواب يكمن في مزايا الجيل الخامس التكنولوجية فهي عدا أنها تمكن المستعمل من التعامل مع سرعة بيانات تصل إلى 20 جيجابت في الثانية، وتستخدم نطاقات التردد العالي، وتتسم بزيادة في سعة التردد وإنتاجية البيانات، وتمكن المستخدم من اتصال فوري قادر على التعامل مع 100 جهاز في الوقت نفسه في جميع أنحاء العالم، وتخفض من زمن انتقال المعلومات إلى مللي ثانية تقريبا، وتوافق الأجهزة والآلات القديمة مع الحديثة، عدا عن ذلك كله أن مالك هذه التكنولوجيا من حيث الإتقان والسعر هو شركة صينية، ولا يوجد لهذه الشركة منافسون من أمريكا، ومنافسوها من الغرب ينحصرون في شركتي نوكيا وإريكسون وهما شركتان من اسكندينافيا، وليس عندهما المقدرة التي تملكها هواوي. فمن يملك تكنولوجيا الشبكات هذه، إن لم يملك القول الفصل، فنستطيع أن نقول إنه يملك القول المؤثر في الصناعات المستقبلية التي تقوم على أكتاف هذه التكنولوجيا، فمن المعلوم أن كل شركات الأجهزة والأنظمة الشبكية سوف تسعى إلى تطوير أجهزتها وأنظمتها حتى تتواءم وتواكب التطور الذي أحدثته هذه التكنولوجيا الجديدة في مجال عملهم، وإلا اضمحلوا مع الوقت وماتت استثماراتهم بموت منتجاتهم، كما حصل مع شركات كثيرة لم تستطع مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة. وهذه الجزئية بنظري هي التي أدت إلى جنون ترامب وإدارته حتى إنه جمع أعلام التكنولوجيا في بلده وطلب منهم البدء فورا في بناء الجيل السادس من تكنولوجيا الشبكات حتى يبقي على سيطرة بلاده في هذا المجال، وكأن بناء جيل جديد لهذه التكنولوجيا من قبيل كن فيكون!
باشرت أمريكا مجددا بعد تلقيها صفعة هواوي بتصعيد وتبرير الاتهامات القديمة للشركة وهي تهمة سرقة مخططات الشركات الأمريكية، وتهمة التجسس على مستخدميها لصالح الصين، وأضافت إليها تهمة جديدة مؤخرا وهي محاولة الالتفاف على العقوبات الأمريكية على إيران. ولكن يبدو أن شركة هواوي لن تكون لقمة سائغة في يد أمريكا، وأنها لن تخضع بسهولة لتهديداتها ومحاولاتها تحطيم نجاحاتها على المستوى الدولي، فهي تملك أوراقاً كثيرة أهمها الدعم المطلق من الحكومة الصينية والتي بيدها الكثير من أوراق الضغط على أمريكا وغيرها، فهي على سبيل المثال تمتلك حصة تعادل حوالي 70% من عناصر الأرض النادرة والتي تدخل في كل الصناعات الحديثة تقريبا ومنها صناعة الاتصالات والمواصلات التي تهدد أمريكا بقطعها عن الشركة الصينية.
والسؤال المهم هنا من وجهة نظرنا نحن المسلمين: أين نحن من هذا الصراع؟ وهل لنا دور فيه؟ نستطيع القول بكل أسف إننا في ظل هذه المنظومة التي تحكمنا وتفرض علينا بالحديد والنار نقف موقف المتفرج الذي سوف يطاله جزء من الشرر حين تبلغ النار الحريق.
أما العبر المستفادة من هذا الصراع والتي يجب علينا أن نستغلها وننشرها بين أحرار العالم أجمع في صراعنا الدائر مع الرأسمالية العالمية وهيمنتها على بلادنا ومقدراتها، فهي فضح خرافة اقتصاد السوق والعولمة التي يتشدق بها أرباب النظام الدولي الرأسمالي بزعامة أمريكا ومشاركة الدول الغربية، والتي بدت واضحة من خلال تعاملهم مع الشركة الصينية وعدم توانيهم من التآمر عليها من أجل تحطيمها وعدم السماح لها بدخول الأسواق العالمية التي يسيطرون عليها ويريدون الحفاظ على نفوذهم فيها وذلك على العلن وبدون أدنى مراعاة للقيم والقوانين التي وضعوها وصدعوا رؤوس العالم بها من أجل السماح لهم من دخول الأسواق العالمية وبسط نفوذهم عليها.
إن النظام الرأسمالي الذي أهلك الحرث والنسل على مدى ما يقارب 200 سنة وتوغله وإبداعاته في استحداث أنواع جديدة من الظلم والاحتكار خلال المئة سنة الفائتة قد قارب على الزوال، وهو اليوم يحطم نفسه بنفسه باختلاق مثل هذه الصراعات العالمية التي ليس من شأنها أن تنتهي على خير للإنسان والحياة.
إن نظام الإسلام الذي يحرم الربا والاحتكار والظلم ويعاقب عليه هو وحده البديل عن هذا النظام الكارثي الذي ضيع الإنسانية والإنسان من خلال الجري نحو الثروات وحيازتها بشتى الطرق والحيل.
لكن ما لم يتحرر المسلمون من الاستعمار ويؤسسوا لدولة راشدة ترعاهم كافة على أساس الإسلام وأنظمته فإن البديل يبقى مجرد مشروع لا يلتفت إليه أحد.
بقلم: الدكتور محمد عقرباوي
رأيك في الموضوع