بعد ثماني سنوات من ثورة أهل تونس والتي بدأت في 17/12/2010، وبعد مشاركة حركة النهضة في عدة حكومات منها حكومة الترويكا (الجبالي والعريض) من 2011-2014، ثم حكومة الصيد 2014، ثم حكومة الشاهد 2016، لم تعترف الحركة بالحقيقة، ولم تجرؤ على مصارحة أتباعها بتناقضات الواقع السياسي وأكاذيبه، وتردّيه من سيئ إلى أسوأ، وتقوقعه في مستنقعات العمالة للدول الكافرة... وبدل أن تقف لتعلن على الملأ؛ بأن جميع الأحزاب المشاركة في الحكم في تونس، أو تحت مظلة البرلمان؛ هي أحزاب علمانية، أو يسارية لا تمت للإسلام بصلة، بل إنها تحارب الإسلام السياسي المستقيم، وأن الحل لتونس ومشاكلها العميقة؛ هو حكم الله عز وجل، بدل هذا وذاك أصرت الحركة على دخول حلبة الصراع السياسي من جديد. فقد صرح المسئولون في هذه الحركة، عن نيتهم الدخول في صراع الكراسي المعوجة قوائمها؛ بل المحمول من الأحزاب العلمانية المتصلة بالقوى الاستعمارية الخارجية. فقد صرح رئيس الحركة راشد الغنوشي 12/1/2019، خلال محاضرة ألقاها في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية" بعنوان "مسار الثورة بعد 8 سنوات؛ رؤية واستشراف" (بأن حركته ستشارك رسمياً في الانتخابات الرئاسية المقررة نهاية العام الجاري 2019، مؤكداً أنه غير معني شخصياً بالترشح)، وأمام هذا الواقع المتناقض لهذه الحركة، وأمام ازدواجية المعايير عندها ووقوفها مع الأحزاب العلمانية المحاربة لدين الله والمخادعة لأهل تونس، بل العاملة على دفعه في مستنقع التبعية والعمالة، لا بد أن نضع المخلصين من أبناء تونس عامة، وأتباع حركة النهضة خاصة أمام الحقائق التالية:
1- إن الثورة التي حصلت في تونس؛ الأصل أنها انقلابٌ على الواقع السياسي السيئ، وتوّجه صحيحٌ مخلص للخلاص من الضنك، والتبعية السياسية، وتوجهٌ نحو الإسلام في الحياة العملية. وما حصول حركة النهضة في بداية الأمر؛ في الانتخابات للمجلس التأسيسي، التي جرت سنة 2011 على نسبة عالية 89 مقعداً من أصل 217 مقعدا بنسبة 42%؛ وتقدر بحوالي مليون ونصف المليون صوت من مجموع الناخبين؛ إلا دليل عملي على حب أهل تونس للإسلام.
2- إن الواقع السياسي في تونس؛ بعد ثماني سنوات من الثورة الانقلابية، ضد أدوات الاستعمار لم يتغير؛ بل ازداد سوءاً في كل الميادين، وكافة الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... والأرقام التي تصدر عن المؤسسات الرسمية والخبراء هي أكبر شاهد على ذلك؛ حيث ذكر رئيس المعهد الوطني للإحصاء في تونس؛ أن نسبة البطالة تفوق 15%. وفي بعض المناطق تتعدى هذه النسبة، وعدد العاطلين عن العمل يزيد عن 640 ألف عاطل، وأن عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في تونس بلغ مليوناً و694 ألف شخص. هذا رغم اتساع الأراضي الصالحة للزراعة، وكثرة وتنوع الثروات الطبيعية؛ وخاصةً الزيت الصخري... ورغم اقتراض تونس حوالي 76.165 مليار دينار، تمثل 71.45% من الناتج المحلي الإجمالي، منها 22.523 مليار دينار تونسي ديون داخلية، ومبلغ 53.840 مليار دينار ديونا خارجية بنسبة 70.7% من إجمالي الديون.
3- الوسط السياسي في تونس ليس من جنس الأمة، ولا من جنس فكرها؛ فهو بعيد عن أحكام دينها. فهذا الوسط هو من بقايا النظام السابق. ولو كان هذا الوسط من جنس الأمة؛ لطبق ما تريده الأمة عندما انتخبت الإسلام سنة 2011؛ في أول انتخابات بعد الثورة؛ حيث انتخبت الأغلبية من أهلتونس الإسلام ممثلا حسب تصورهم في حركة النهضة، ولما عادى هذا الوسط المخلصين من أبناء تونس الذين ينادون بتطبيق الإسلام، ونعتهم بـ(الإرهاب) و(التطرف)، وأودع قسما منهم في السجون، ولما شرع قوانين تناقض دين الإسلام مناقضة تامة؛ مثل قوانين المساواة، وحريات المرأة، وقوانين المثليين، وإباحة الخمور واللباس السافر... وغير ذلك من انحرافات عن دين الله عز وجلّ.
4- إن حركة النهضة قد تأسست على أساس أنها تريد تغيير الواقع بالإسلام، وقد عُرفت قبل اسم حركة النهضة باسم الجماعة الإسلامية، وقد قامت الجماعة بداية كردة فعل على التحديث المجتمعي؛ الذي قام به الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والذي أدّى إلى تهميش دور الدين والمساجد والدعوة، في مقابل انتشار ظواهر التحرر، وتبني نمط الحياة الغربي، الشيء الذي اعتبره الإسلاميون حينها شكلا من الانحراف الخطير؛ الذي يهدد هوية المجتمع اللغوية والدينية. وقد اتبعها الكثير من المسلمين في تونس لهذا الأمر، ولكن هذه الحركة قد خدعت أتباعها، وباعت نفسها لمخططات الاستعمار؛ عن طريق رضاها بالقوانين المناقضة للإسلام، وارتمائها في أحضان الأحزاب العلمانية واليسارية. حتى إنها لم تستحي أن تعلن على الملأ بأنها تحارب (الإرهاب)؛ الذي تحاربه أوروبا وأمريكا وعملاؤهم حكام المسلمين؛ حيث أكدت حركة النهضة مشاركتها في المسيرة الدولية ضد (الإرهاب) المقرر تنظيمها 27/3/2019 في تونس؛ للتعبير بقوة عن وحدة التونسيين في مواجهة هذا الخطر، وتصميمهم على الدفاع عن دولتهم وثورتهم وحريتهم. ودعت الحركة في بيان لها أنصارها ومنتسبيها إلى المشاركة القوية في هذا التحرك. كما أعلنت الحركة عن تنصلها من أصالة الإسلام وجذوره، وإعلانها كذلك في مؤتمرها العاشر بأنها (حزب تونسي مدني ديمقراطي؛ ذو مرجعية إسلامية)، وقال رئيسها الغنوشي في المؤتمر: (إن مصطلح الإسلام السياسي، لم يعد مبررا في تونس، وأنه يفضل عبارة مسلمون ديمقراطيون.(.. وقد انحدرت أيضا وابتعدت الحركة كثيرا عن أصالة الإسلام، وأحكامه الثابتة تجاه بعض القضايا؛ التي مثلت أبرز التحديات أمام اندماج هذه الحركة في نسيج الدولة الوطنية الحديثة، مثل قضايا الدولة المدنية، والتعددية السياسية والحقوق المدنية، والحريات والمرأة، والموقف من تطبيق الشريعة، وقضية الدولة الإسلامية، والعنف، وعلاقة الدين بالدولة... وقد أصبح الكثير من أتباع هذه الحركة يتساءلون: أين الإسلام من أعمال وأقوال الغنوشي أو مورو، وغيرهما من رموز هذه الحركة؟! وأصبح الكثير من أبناء تونس يتساءلون: ما هو الفرق بين النهضة وبين أي حزب علماني آخر؛ كنداء تونس مثلا من القضايا الحساسة التي تعترض تونس هذه الأيام؟!
5- لقد زادت نقمة أهل تونس على كل الأحزاب المشاركة في الحكم، وصارت تدعو صراحة للثورة من جديد على الظلم، وعلى الفقر وعلى التبعية السياسية المكشوفة، وعلى سرقة أموال الناس، واستعبادهم في سبيل خدمة زمرة من اللصوص المتحكمين في رقاب الناس؛ من الوسط السياسي وحواشيه. وليس أدل على هذا الأمر من تجاوب الناس جميعا لدعوة الإضراب التي دعا إليها اتحاد عام الشغل بتاريخ 19/1/2019 حتى شلت كل مرافق البلد. وقد استمرت الاحتجاجات، ولم تتوقف في كثير من المناطق الأخرى. والواقع يتهيأ لإضرابات جديدة أوسع من ذي قبل.
وأمام هذه الحقائق وغيرها، وأمام مرارة الواقع والتردي والفقر والانحطاط السياسي، والتنصل من أصالة الإسلام إلى انحرافات العلمانية والديمقراطية الغربية العفنة؛ البعيدة عن جذور هذه الأمة وتاريخها الوضاء المشرف؛ الذي وصلت إليه الأحوال داخل تونس نذكر بالحقائق التالية:
يتبع في الحلقة القادمة...
رأيك في الموضوع