لا شك أن السياسة الدولية تقوم على إخفاء أهدافها الحقيقية ونواياها الخبيثة؛ وهي تستند في أعمالها إلى فكرة أساسية قائمة على القضاء على الإسلام؛ وضمان عدم عودته إلى معترك الحياة من جديد، فقد توارثت الدول الحرب على الإسلام جيلا بعد جيل، وهي أيضا تستخدم في سياساتها مقياسا واحدا يعتمد على المنفعة فحسب ولا شيء آخر سواها؛ ثم تغلف هذا كله بغطاء جميل مزركش تخدع به البسطاء من الناس أصحاب التفكير السطحي؛ الذي ينبهر بالشكل فيعمى عن رؤية المضمون.
والآن ونحن نعيش في زمن القطب الواحد؛ الذي هيمن على العالم بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكك دول الاتحاد السوفيتي، أصبحت سياسات الدول لا تخرج عن سياسة هذا القطب (أمريكا)؛ أو على الأقل لا تشكل تهديدا صريحا عليه، وقد استخدم في ذلك مجموعة من الأدوات سخرها لتحقيق سياساته، واختبأ خلف مصطلحات توحي بالتشاركية تأسيا بالعقلية الفرعونية التي تقول ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾.
هنا يتجلى قلب الحقائق في أخبث صوره؛ فالحرب على (الإرهاب) هو شعار أمريكا في هذا الزمان وحقوق الإنسان والحرية والعدالة رداؤها؛ مع العلم أنها هي صانعة الإرهاب ومستعبِدة الشعوب.
كان لا بد من هذه المقدمة حتى نستطيع أن نتصور حجم المكر الذي يحاك على ثورة الشام؛ ونتعرف على العقلية التي تدير هذا المكر الكبير؛ والأدوات التي تستخدمها والأساليب التي تتبعها.
فقلب الحقائق كان شعار قمة سوتشي الأخيرة التي انعقدت في 14/2/2019م، فوقف إراقة الدماء والمحافظة على المدنيين والتسوية السياسية وعودة اللاجئين هو الثوب المزركش الذي يغطي عورة المجتمع الدولي ويخفي أهدافه الحقيقية ويقلب الحقائق، وإذا نظرنا إلى حال الدول المشاركة في قمة سوتشي نجد أن كل دولة منها تسعى لتحقيق مصالحها بما ينسجم مع الرؤية الأمريكية للحل في سوريا؛ فروسيا تدرك أنها واقعة في مأزق حقيقي؛ وهي تريد الخروج منه في أسرع وقت ممكن؛ لتحفظ ماء وجهها، وهي تدرك أيضا أن أمريكا لن تسمح لها بذلك، ولن تسمح لها أن تخرج للعالم رافعة لواء النصر؛ وخاصة أن أمريكا هي التي ورطت روسيا في الملف السوري وسمحت لها بالتدخل العسكري، فالحديث عن استعادة السيطرة على إدلب بعيد المنال؛ على الأقل في المدى المنظور، أو قبل استكمال عناصر الحل السياسي الأمريكي، فأمريكا فرضت على العالم الحل السياسي؛ والأعمال التي يسمح لروسيا بها ستكون ضمن هذا السياق؛ ولن تستطيع روسيا فرض الحل العسكري وإنهاء الملف السوري على طريقتها، هذا من جهة؛
ومن جهة أخرى المجتمع الدولي يدرك تماما أنه في حال سيطرت قوات أسد المدعومة من القوات الروسية والإيرانية على المنطقة عسكريا؛ فلن تستطيع أن تحافظ على وجودها، وخاصة بعد أن جمعت كل المقاتلين من كافة أنحاء سوريا، بل والكثير من المدنيين الثائرين على نظام طاغية الشام، وهي لا تضمن عدم انفلات الأمور من يدها فلا تزال نار الثورة متّقدةً في صدور الناس، ولن تستطيع قوة في الأرض أن تطفئ جذوتها، وما يحصل في درعا خير دليل على ذلك، وبناء عليه؛ سيعتمد الغرب في إحكامه السيطرة على الشمال السوري على قيادات الفصائل التي باعت نفسها له بثمن بخس دراهم معدودة، فقيادات الفصائل هي الجهة الأقدر في نظر الغرب على ضبط الأمور؛ وتسييرها بما يخدم السياسة الأمريكية دون خسائر منه، ففي جميع الأحوال الخاسر الوحيد هو أهل الشام وأبناؤهم الذين في الفصائل.
أما إيران فهي تسعى لأن توجد لها موطئ قدم في سوريا؛ وهي تدرك أنها ستخرج منها يوما ما فعملت على إيجاد ما يسمى التغيير الديموغرافي؛ ونقلت الكثير من أتباعها ومنحتهم الجنسية السورية، وهي مستميتة في الدفاع عن نظام سفاح الشام حتى لو أبادت كل الشعب السوري.
أما بالنسبة للنظام التركي فجل ما يعنيه هو الحفاظ على أمنه وحدوده؛ وهذه المخاوف ضمنتها له روسيا بالاستناد إلى اتفاقية أضنة الموقعة بين النظام السوري ونظيره التركي سنة 1998م، والتي تقضي في أحد بنودها على إعطاء تركيا حق "ملاحقة الإرهابيين" في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و"اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر".
وبهذا نجد أن قمة سوتشي هي من أجل تحقيق مصالح كل الأطراف المشاركة على حساب مصلحة أهل الشام، ولا شك أنها لا تتعارض مع الرؤية الأمريكية للحل في سوريا بل تسعى لتحقيقه من خلال تشكيل لجنة دستورية ستصوغ دستورا يحدد هيكل الدولة.
أما على الصعيد الميداني؛ وما تتعرض له المناطق من قصف مكثف وما ينتج عنه من مجازر وحشية؛ ووقوف قيادات الفصائل مكتوفة الأيدي؛ فيفهم ضمن هذا السياق وهو من باب الضغط على الناس لتهيئتهم للمرحلة القادمة التي تتطلب تنازلات كبيرة؛ ستتغطى بغطاء وقف نزيف الدم، وربما تتم السيطرة على بعض المناطق لزيادة الضغط وتبرير جريمة التنازلات، وأمام هذه الحقائق كان لا بد لأهل الشام أن يدركوا جيدا حقيقة معركتهم وعظم قضيتهم؛ فمعركتهم معركة وجود؛ وقضيتهم قضية مصيرية، ولا بد لهم أيضا أن يعلموا أنه لا يوجد صديق لهم حتى لا يقعوا في شباك أعدائهم وهم يحسبونهم أصدقاء ففي ذلك الهلاك المحتم، وبعد أن يدركوا حقيقة معركتهم ويعلموا أعداءهم؛ ينبغي لهم أن يستندوا في معركتهم إلى القوة المطلقة وهي قوة الله عز وجل؛ فيحسنوا التوكل عليه، ومن ثم يقدموا أوراق اعتمادهم له؛ فيتبنوا المشروع السياسي المنبثق من عقيدة المسلمين؛ والذي يرضاه الله عز وجل بديلا عن المشاريع الوضعية حتى يستحقوا نصر الله سبحانه وتعالى وتأييده، ومن ثم يتجمع أهل القوة مع الحاضنة الشعبية خلف قيادة سياسية واعية ومخلصة للسعي لتحقيق هذا المشروع بعد إسقاط النظام المجرم، فيحققوا بذلك بشرى رسول الله e بإقامة الخلافة على منهاج النبوة وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الوهاب
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع