إن الحراك الذي بدأ من تونس ومن ثم تبعته كل من مصر وليبيا واليمن وصولاً إلى الشام، لدليلٌ عملي على وحدة الأمة الإسلامية، فقد رفضت الأمة كل الممارسات القمعية والسياسات الخيانية التي كانت تُمارسها الحكومات العميلة التابعة للكافر المستعمر المدعومة منه، بهدف إبقاء الأمة مكبلة يرتع الغرب في بلادها وينهب خيراتها ويصادر مكتسباتها، ويُبقي الأمة رهينة له ويمنع نهضتها وعودة عزها ومجدها.
خرجت الأمة بجموعها وتمردت وتظاهرت، تُعبّر عن رفضها للسياسات القائمة، وأصبحت تنادي بكل وضوح أنها تبحث عن هُويّتها المطموسة، فصدعت بالحق رفضاً للخنوع والركوع وكان تعبيراً عن صورة الهوية التي تبحث عنها، إنها الهوية الإسلامية.
تنبّه الغرب الكافر المستعمر لهذا التحرك وهذا الحجم وهذه الجموع التي يزداد تفاعلها يوماً بعد يوم، وسقف مطالبها يرتفع كلما ازداد حجم التضحيات التي تقدمها، جراء الحقد الذي يمارسه الطغاة المجرمون بشتى أنواع العذاب من قتل واعتقال وتهجير، لمنع وصولهم لهذا الهدف الذي باتت الأمة تتوق إليه وتسعى له.
فجمع الغرب وحشر ونادى وعقد المؤتمرات وحاك المؤامرات ورسم المخططات ونصب الفخاخ ونسج الدوائر لمنع الأمة من الوصول للهدف المنشود، لأن هذا الحراك يهدد نفوذه في بلاد المسلمين، فاحتال على ثورات الربيع وحجّم مطالبها وصرفها عن الهدف الرئيس الذي دفعها للخروج ضد الطغاة المجرمين الذين ساموها القتل والدمار وأذاقوها ويلات العذاب ومرارة العيش.
وما مكّن الغرب المجرم من حرف البوصلة في الثورات، هو عدم امتلاكها مشروعاً مستنبطا من كتاب الله وسنة نبيه، نابعاً من صلب عقيدة الأمة التي أبدت استعداداً للتضحية مقابل نيلها عزتها وكرامتها بتحكيم شرع ربها، وعدم تحديد ثوابت لثوراتها، تكون هذه الثوابت خطة عمل ومعالم على الطريق الذي يجب أن تسير به الأمة لتتيقن أنها وصلت للهدف الذي ضحت من أجله بأغلى ما تملك.
ولعدم وجود مشروع وعدم تبني الثورات للثوابت، استطاع الغرب المجرم الالتفاف على الثورات في تونس وليبيا ومصر واليمن، ففرقها ولوى ذراعها وأرجع الأمة فيها إلى حظيرة الأنظمة القمعية يُمارس عليها العذاب بكافة أصنافه، ويُقصي فيها شرع الله ويُحارب دعاة تطبيقه.
أما ثورة الشام المباركة فكانت منذ البداية أكثر الثورات وضوحاً بالهدف وأكثر جرأة بتهديد أطماع الغرب ودق ناقوس الخطر لديه، وذلك من قوة الشعارات وحجم المظاهرات الرافضة للتبعية له، والخارجة عن سيطرته، فكانت شعاراتها "يا الله ما لنا غيرك يا الله"، و"لن نركع إلا لله"، و"هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه"، ولم تكتف بذلك بل طرحت شعارات أكثر وضوحاً للهدف الذي تسعى إليه "قائدنا للأبد سيدنا محمد"، "الشعب يريد خلافة إسلامية"، "في بلدي قد نطق الحجر لا أريد سوى عمر".
هذه القوة بالطرح والحجم الكبير الذي كانت تتحرك به أدخل العالم في حيرة عن كيفية التعامل معها وقد شاهدنا التخبط فيه واضحاً، وحتى تُفشل أمريكا الثورة سلكت طريقين وقسمت الأدوار بين الدول الإقليمية لقسمين؛ منها من ادّعت الصداقة وهمّت بالدعم والاحتواء وهذا كان الدور الأخطر كدور تركيا وقطر والسعودية، ومنها من واجهها بالقتل والدمار ودعم الطاغية المجرم كإيران وحزبها في لبنان وروسيا، وخاصة بعد تمكن الثورة من تحرير عدد كبير من أرض الشام ووصولها إلى دمشق حيث يقبع عميل أمريكا المجرم، وهذا ما صرح به مسؤولون في روسيا وإيران مؤخراً، حيث كان آخرها تصريح لافروف قبل أيام حيث قال "محاولة فاشلة لتغيير النظام من الخارج بالاعتماد على (المتطرفين) كادت أن تؤدي إلى تفكك الدولة وظهور "خلافة" إرهابية على أراضيها. وساهمت الأعمال الفعالة التي قامت بها روسيا استجابة لطلب الحكومة السورية، والمدعومة بخطوات دبلوماسية في إطار عملية أستانة، في تفادي هذا السيناريو الفتاك"!
وهذا ما دفع أمريكا لتهرول مسرعة لعقد المؤتمرات وحياكة المخططات لإقناع الثوار أن هذه التحركات هي لصالحهم، وكانت هذه المؤامرات تقابَل بالرفض مما دفع الرئيس الأمريكي أوباما أن يصرح قبل أن يترك البيت الأبيض أن كثرة الشيب في رأسه سببها الاجتماعات من أجل ثورة الشام، وتبعه وزير خارجيته جون كيري بتصريح مماثل أنه لم ير طيلة حياته الدبلوماسية أعقد من الملف السوري، وهذا يدل على حجم وقوة ثورة الشام.
وكان من خطط الغرب تحويل الثورة من حراك شعبي إلى تكتلات سياسية وفصائل عسكرية، ليسهل قيادتها وحرفها عن هدفها، فمدّ حباله وجمع زبانيته، فأغرق قادة الفصائل بالمال السياسي القذر وصادر قراراتهم وأجبرهم على مفاوضات وهدن مزعومة، لتجنيب النظام من السقوط وسوقهم للقبول بمؤامرة خفض التصعيد، التي كان لها الدور القذر في إعادة المناطق التي يسيطر عليها الثوار للنظام المجرم، وإسعافه بداية من شبح السقوط ومن ثم تأمين أطراف العاصمة وإبعاد الخطر عنها ومن ثم حصر الثورة في زاوية بعيدة عن مقتل النظام وإغراق المنطقة بالخلافات والولاءات التي تحول دون وحدتهم.
وكان حزب التحرير الرائد الذي لا يكذب أهله يصدح بصوت عالٍ منذ اليوم الأول، محذراً الثوار ومن بعدها الفصائل من الوقوع بشراك ومكر الغرب المجرم، فكان ناصحاً أميناً وحريصاً رحيماً بأهله، ولاقى ما لاقاه في سبيل كشف هذه المخططات وفضحها، فعرض نفسه قيادة سياسية يحمل مشروعاً من صلب عقيدة الأمة مستنبطاً من كتاب الله وسنة نبيه، وقدّمه إلى شرائح الثورة من فعاليات وممثلين ووجهاء وفصائل، ولم يكتف بذلك بل وذكّر الثورة وأهلها بضرورة أن يكون للثورة ثوابت تسير عليها كي تصل بالثورة لبر الأمان بعد أن تُرضي الله ويرضى الله عنها، وعمل على ذلك حملات واسعة خاطب الأمة بها ونصحها باتخاذ هذه الثوابت ركائز للهدف.
وتمثلت هذه الثوابت بعدم القبول بغير إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه وتوجيه الحراب نحو مقتله في دمشق، وقطع العلاقة مع الدول كافة وإنهاء نفوذها وقطع الحبال التي مدّتها وخاصة المال السياسي القذر الذي خطف قرار الفصائل ومنعهم من ضرب النظام في معقله، وكان له الدور الأكبر في توجيه الحراب نحو رقبة الصديق الثائر إرضاءً للداعمين، وعدم قبول غير الإسلام نظاماً سياسياً يحكم الأمة بالعدل والحق خلافة راشدة على منهاج النبوة يحفظ بها التضحيات ويأخذ بثأر المظلومين والثكالى الذين دمّرتهم آلة القمع ومكر العالم بأسره. وحتى يتغير هذا الحال على أهل الشام لا بد من تبني هذه الثوابت، والالتفاف حول المشروع الذي يقدمه حزب التحرير والذي يحقق الهدف الذي ضحّت الأمة بالغالي والنفيس من أجل تحقيقه.
بقلم: الأستاذ محمد الحمصي (أبو ذر)
رأيك في الموضوع