الصراع الدولي في ليبيا في تأزم مستمر، وآخر جولات هذا التأزم هي اندلاع الصراع العسكري في العاصمة طرابلس بين مليشيات تحمي حكومة السراج الفاشلة في كل شيء وأخرى مناوئة لها من خارج طرابلس، تضم مليشيات من ترهونة تحت مسمى "اللواء السابع" والذي شرعنه السراج سابقاً في مسعى منه لكسب ولاء قبائل ترهونة ولكنه الآن يسحب تلك "الشرعنة" ويسحب اعترافه به ويتعامل معه على أساس أنه مليشيا كبقية المليشيات الخارجة عن القانون، والتحق بهم بعض كتائب الثوار من مصراتة وغريان والزاوية. والجامع المشترك بينهم في هذه الحرب والسبب المباشر في هذا التحرك هو تواتر الأخبار حول حصول "اتفاق" جرى منذ شهر تقريبا بين مليشيات طرابلس الحامية للسراج والتي تطبق الخناق عليه، وبين خليفة حفتر، حول دخول حفتر إلى طرابلس بالاتفاق معهم من دون قتال، والسماح لحفتر بنقل قيادته من الجبل الأخضر إلى مدينة جنزور القريبة من العاصمة طرابلس المركز. وهذا ما أشعر هذه القوى المسلحة والتي هي خارج مدينة طرابلس في المدن القريبة منها في ترهونة والزاوية ومصراتة وغريان بالخطر الداهم لأنها جميعها ليست على وفاق مع حفتر، فهو يظهر عداءه لها ليل نهار على أنها مليشيات غير قانونية، حسب قوله، وهي سبب عدم استتباب الأمن، فيجب تصفيتها أو حلها، وهذه مهمته هو كما يزعم. هذا ما يظهر على مشهد الأحداث.
ومما زاد في ضرورة سرعة التحرك العسكري الذي قامت به قوات "الكانيات" اللواء السابع وبعض حلفائهم من ثوار مصراتة وثوار غريان والزاوية هو انتشار معلومة خطيرة وصلت إلى بعض ثوار المنطقة الغربية مفادها أن أسباب مماطلة "مجلس نواب طبرق" لإقرار مسودة الدستور هو كسب الوقت لإعلان المجرم خليفة حفتر رئيساً للبلاد عن طريق "مجلس نواب طبرق"، وقيل إن العملية كانت ستتم الأسبوع القادم حسب المعلومات المسربة والمؤكدة عند البعض. وهذا ما أكده تصريح وزير خارجية فرنسا لودريان في مقابلة مع تلفزيون فرنسا الأسبوع الماضي من أن "حفتر الرئيس الفعلي لليبيا"، وقيل في الأخبار المسربة إن ما زاد الأمر خطورة عند المناوئين للسراج وحكومته أن فرنسا طلبت من قادة المليشيات التي تحمي السراج أن يرحبوا برئاسة حفتر واعتبار خطوة "مجلس نواب طبرق" المرتقبة خطوة صحيحة، وهذا ما عجل في تحرك هذه القوى لإبطال مخطط فرنسا وحفتر.
هذه هي الصورة الظاهرة للأحداث، أما الأسباب الحقيقية من وراء تحرك هؤلاء الآن فيمكن أن يفهم في سياق صراع أمريكا ضد بعض القوى الأوروبية على ليبيا، فأمريكا تعمل بواسطة حفتر مدعوما من مصر ودويلة الإمارات من أجل الهيمنة المطلقة على ليبيا كونها بوابة أفريقيا، أو استمرار عملية التدمير لمقومات البلاد الحياتية والاقتصادية، حتى يسهل التحكم فيها، ويصبح جميع حملة السلاح في حاجة لأمريكا فيصبحون في خضوع كامل لها لكي يحفظوا رؤوسهم ومكاسبهم ومواقعهم التي استحوذوا عليها خلال هذه السنوات السبع العجاف بعد سقوط نظام القذافي والأموال التي نهبوها من المال العام في هذه السنين، ومن جهة أخرى القوى الأوروبية وخصوصاً إيطاليا وألمانيا وبريطانيا هم في صراع مستميت مع أمريكا يدافعون عن مصالح لهم في البلاد متعلقة بالغاز والنفط ومعادن شتى تزخر بها البلاد. ويستعملون أبناء البلاد أنفسهم في هذه الحرب، ويبدو مما يجري الآن من صراع دموي أن إيطاليا لها دور في تحريك "الكانيات" اللواء السابع لقطع الطريق أمام حفتر ومن يدعمه ومن ينسق معه. فقد تضحي إيطاليا وبريطانيا بعميلهم السراج الذي كانوا يعملون على دعمه وتمكينه، بعد أن تأكدوا من عجزه وأصبح لا يقدر على شيء، وهو مسيطَر عليه من المليشيات التي تحميه، وهو الآن في سنته الثالثة ولم يفعل شيئا بل أصبح دمية في يد أمريكا يلبي مطالب حفتر واحدة تلو الأخرى.
ولذلك يظهر عدم الرضا عن السراج وأدائه في تسيير الأمور لما تعيشه البلاد من أزمات تطبق على خناق الناس في الأمور المعيشية؛ من انهيار في سعر صرف الدينار الليبي؛ ففي مدة قصيرة تراجع سعر صرفه مقابل الدولار 500%، والمصالح الغربية المتعلقة بالغاز والنفط متدهورة، بين الحين والآخر تعبث بها قوى الأمر الواقع، والسيولة النقدية تنقطع لمدد طويلة عن المصارف، فالأوروبيون قناعتهم في قدرات السراج في تضاؤل، وأصبح التخلي عنه أمراً إيجابيا بالنسبة لهم، ولهذا لم نشهد خلال الأسبوع كله رغم اشتداد المعارك والضحايا أيّ تحرك إعلامي كبير أو دبلوماسي، بل الصمت كان هو سيد الموقف في روما وبرلين ولندن، وهم في ترقب ومراقبة لمسار الأحداث في الوقت الذي تتحرك فيه قوى الأمر الواقع من كتائب تقطع الطريق على حفتر حتى لا يجد له مكاناً في طرابلس، ولا تتمكن "مسرحية" مجلس نواب طبرق من العرض في العاصمة. فهذا الصمت المريب يدل على شيء من الرضا على ما يجري، فهل يملك الأوروبيون مخططاً أو خريطة عمل للمرحلة القادمة على ضوء ما يمكن أن تسفر عنه العملية العسكرية الجارية الآن؟ أم هو تدوير لما عرضه غسان سلامة سابقاً ولم ينجح في تنفيذه؟؟
ومما يشجع القوى الغربية على الصمت وعدم الاعتراض على ما يجري أن هذا القتال والتقاتل يحدث بعيدا عن "الهلال النفطي" الذي لم تسمح أمريكا باللعب به وفيه حتى ولو كان اللاعب هو عميلها حفتر، ورأينا كيف أمرته بسحب قواته من الموانئ النفطية وتسليمها إلى مؤسسة النفط.
فأمريكا ترى في هذا التقاتل تحقيقاً لأهدافها في إشاعة الفوضى والقضاء على الرافضين لوجودها. والإيطاليون والإنجليز يرونه عملاً يحول دون وصول حفتر للرئاسة. أما الفرنسيون فهم سعيدون بهذا القتال لأنه يصرف الأنظار عما يعملون في الجنوب.
إن هذا الذي يحصل الآن في البلاد يجب أن يكون حافزاً للقوى الحية في أن تسارع في لمّ شتاتها من أجل استرجاع قرار البلاد السياسي من أيدي العملاء والمرتزقة، وعلى ضوء ذلك يتم طرد وإسقاط هذه الزمر التي تكاثرت وتوالدت خلال هذه الأعوام التي أعقبت الثورة، ولا يمكن حصول ذلك إلا بالاعتماد على القوى الذاتية لأهل البلاد وإدراك فداحة وفظاعة الاتصال والاعتماد على الأجنبي، وإدراك أن الاتصال والاعتماد على الأجنبي هو الخيانة الكبرى لله وللرسول ولأهل البلاد أجمعين.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع