كانت شبه الجزيرة الكورية ضحية لعملية تقسيم نفوذ بين العملاقين المنتصرين الأمريكي والسوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، وحصل السوفيات آنذاك على الجزء الشمالي من البلاد، في حين حاز الأمريكيون على الشق الجنوبي، لكن الحقائق الجيوسياسة كانت شديدة التباين، فقد أسفرت عن تشكيل دولتين تختلفان عن بعضهما بشكل كبير، حيث حظي الشمال بنصيب أقل في كل شيء - باستثناء المساحة فإنها كانت متقاربة - بداية من القدرات البشرية وليس انتهاءً بالسهول الزراعية، ما يعني مثلًا أن كوريا الشمالية ظلت منذ نشأتها بلدًا غير قادر على إنتاج كفايته من الغذاء.
بدأت كوريا السوفياتية (الشمالية) مباشرة في استقطاب القادة الشيوعيين المنفيين منذ الحرب اليابانية، قبل التقسيم الأمريكي السوفياتي، والمتوافدين من الصين وروسيا وحتى من ولايات الجنوب الأمريكي، للدولة الكورية الجديدة. وكان أحد هؤلاء المنفيين هو كيم إل سونغ الذي نُصب حاكمًا للشمال بعد 25 عامًا قضاها في المنفى في روسيا، في حين نصبت أمريكا حكومة منتخبة في الجنوب. وفي عام 1950، قرر إل سونغ، بإيعاز سوفيتي، توحيد الكوريتين تحت حكمه، فقام بغزو كوريا الجنوبية ما تسبب بتدخل أمريكي قامت على إثره الحرب الدموية الشهيرة بين الشطرين. وقد تدخلت الصين لمساعدة الجيش الكوري الشمالي الذي انسحب في نهاية المطاف إلى خط التقسيم، قبل أن يتم توقيع اتفاق وقف إطلاق للنار بعد ثلاث سنوات من الحرب، مُدخلًا البلدين في هدنة طويلة مع منطقة عازلة بطول الحدود حول خط عرض 38، ولكن الدولتين لم توقعا أبدًا على أي اتفاق سلام نهائي إلى اليوم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تعمقت أزمة كوريا الشمالية، حيث شعرت أنها فقدت حاميها الرئيس وخط الدفاع الأول عن الدول الشيوعية، ورغم أن الصين دخلت على الخط لسد هذه الفجوة بشكل كبير، لكنها لم تقم بهذا الدور، من باب الناحية المبدئية، من أجل وقوف الشيوعية في وجه الرأسمالية، وإنما كانت مساعدتها لكوريا الشمالية خدمة لمصالحها، ورغبة في أن تكون دول الجوار خادمة لها، ومنطقة استقرار للحدود بعدم وجود عدو بيد الغرب يقض مضاجعها، فالصين لا ترغب أن يتكرر سيناريو فيتنام التي انقلبت علاقتها معها إلى العداء بعد انتهاء الحرب الفيتنامية والتوحد، على الرغم من مساعدة الصين الكبيرة لفيتنام في هذه الحرب، فالمسألة إذن ليست مبدئية وإنما مسألة دفاع عن حدود الصين، وأن تكون كوريا الشمالية خط دفاع عن بكين في ظل سياسة أمريكا لاحتواء الصين.
ومسألة كوريا تقلق أمريكا نوعا ما، وجعلت أمريكا تصف كوريا الشمالية بالدولة المارقة لامتلاكها السلاح النووي والصواريخ العابرة للقارات، خاصة أن هذه الصواريخ قادرة على الوصول للبر الأمريكي، فضلا عن جزيرة غوام التي تحتل القواعد الأمريكية ثلث مساحتها؛ فقاعدة أندرسون الجوية تعد أكبر مستودع للأسلحة والقذائف الاستراتيجية لتزويد العمليات الأمريكية حول العالم، بالإضافة لقاعدة أبرا البحرية الاستراتيجية التي تلعب دورا حيويا في ربط القواعد الأمريكية في المحيط الهادئ، ولما تمثله أيضا من إزعاج لحلفاء أمريكا في المنطقة، ولكن علاقة الصين بدول الجوار لم تكن علاقة مبدئية، فهي تبني علاقتها مع الجوار والدول الأخرى خدمة لكيانها وليس دفاعا عن المبدأ، ومن هنا نستطيع أن نفهم علاقة الصين بكوريا وعلاقة الصين بأمريكا من خلال كوريا الشمالية.
أما بالنسبة لسياسة أمريكا مع الصين، فمما لا شك فيه أن الصين هي أهم أولويات أمريكا والأكثر خطورة لديها في الوقت الحالي، ومن هنا يفهم وجود الجار الكوري الشمالي ضمن حلبة الصراع بين الصين وأمريكا، فقد استدارت أمريكا نحو منطقة آسيا المحيط الهادي لما تمثله من خطر حقيقي قادم على الزعامة والقيادة العالمية، ولما تمثله من خطر كبير في منطقة من العالم تحوي دولا كبرى وأسلحة نووية وطموحات مرحلية إقليمية، وقد سعت أمريكا لتطويق الصين تطبيقا لسياسة الاحتواء الاستراتيجية، واستعملت في ذلك أساليب عديدة سواء من خلال الدخول في تحالفات مع الدول المناوئة لها في جنوب شرق آسيا، أو إثارة الاضطرابات في الدول التي تمثل أهمية استراتيجية للصين مثل ميانمار، أو حتى التورط في إثارة الاضطرابات داخل الصين.
فقد قامت أمريكا في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2015، هي وإحدى عشرة دولة مطلة على المحيط الهادئ، وهي: أستراليا، بروناي، كندا، شيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، بيرو، سنغافورة، فيتنام، بتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي، وهي اتفاقية تجارة حرة متعددة الأطراف تهدف إلى زيادة تحرر اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وصرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالقول "إن واشنطن لن تسمح لبلدان مثل الصين أو غيرها بكتابة قواعد الاقتصاد العالمي"، كما قال: "عندما يعيش ما يزيد على 95% من مستهلكينا المحتملين خارج حدودنا، فلا يمكن أن نجعل دولا كالصين تكتب قواعد الاقتصاد العالمي"، وأضاف: "ينبغي لنا أن نكتب هذه القواعد، وأن نفتح أسواقا جديدة للمنتجات الأمريكية في الوقت الذي نرسي فيه معايير عالية لحماية عمالنا إلى جانب الحفاظ على بيئتنا".
وسعيا لتحجيم الصين وكبح طموحاتها الاقتصادية والعسكرية، تواصل أمريكا منذ عدة شهور محادثات مع روسيا لإقحامها في الجهود التي تبذلها لاحتوائها. ولتحفيز روسيا على الانخراط في جهود الاحتواء، تحاول أمريكا تقديم بعض الإغراءات لها كعقد الصفقات، وعلى الجانب الآخر التهديد بالعقوبات ضدها لجعلها تخضع للمحاولة الأمريكية في استخدامها لاحتواء الصين.
وبسبب الغموض الذي أحاط المحادثات مع روسيا وقطعا للشائعات، بثت وكالة الصين الرسمية للأنباء بيانا نشرته صحيفة الحزب الشيوعي الصيني الواسعة الانتشار (Global Times) في 30/10/2012 نفت فيه استجابة روسيا لضغوط أمريكا لاحتواء الصين، ولكن في الوقت نفسه لا توجد أية مؤشرات تدل على وصول المحادثات بين الدولتين إلى طريق مسدود. واستكمالا لتنفيذ عمليات احتواء الصين تجري أمريكا محادثات مع الهند المجاورة للصين مستغلة العداء التاريخي بينهما لأجل ضمها إلى قائمة الدول التي تقف مع أمريكا ضد الصين. والأمر لا يقف عند هذه الدول بل تحاول أمريكا إشراك جميع الدول في تلك المنطقة، وتستخدم جميع الأدوات لاحتواء الصين الذي بات يعرف باستراتيجية توازن القوى من أجل تحقيق الهدف المنشود لأمريكا.
والصين تدرك تمام الإدراك هذه السياسة والأدوات التي تستخدمها أمريكا في ذلك، وتحاول إيجاد سياسة واستراتيجية مضادة لعرقلة المساعي الأمريكية، أما من ناحية إدراك الصين لهذه السياسة فقد جاء في المقال الذي كتبه الجنرال لو يوان "إن الولايات المتحدة تنشر قواتها في شتى أرجاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ من أجل احتواء صعود الصين". وأضاف الجنرال لو يوان "إن الادعاءات التي ساقتها واشنطن في الأسبوع الماضي من أن هذه الاستراتيجية ليست موجهة ضد الصين جعل النوايا الأمريكية أكثر وضوحا". وتحدث الجنرال لو في مقاله أيضا "لو نظرنا إلى ما حولنا سنجد أن أمريكا تعزز التحالفات العسكرية الخمسة التي تنخرط فيها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتعدل مواقع تجمعات قواعدها العسكرية الخمسة في المنطقة بينما تطالب بزيادة هذه القواعد في البلدان المحيطة بالصين". وقال مخاطبا الأمريكيين "من يصدق أنكم لا تستهدفون الصين؟ أليست هذه عودة إلى عقلية الحرب الباردة؟". ويذكر أن الجنرال لو معروف بآرائه ومواقفه المتشددة التي ينشرها في الصحف الصينية الشعبية، ولكن ظهور مقاله هذا في الصحيفة الرسمية للجيش الصيني يشير إلى أن الآراء التي عبر عنها تتمتع بقدر من الدعم الرسمي.
ومن ناحية الإجراءات التي تقوم بها الصين سعيا لإفشال مساعي أمريكا في سياسة احتوائها، فهي تحاول منع استخدام دول الجوار كمخلب ضدها، وذلك من خلال المعاهدات، وتأمين الحدود، وسياسة عدم الاعتداء، والتقارب كما حدث مع الهند العدو التقليدي، والعلاقات التجارية والاقتصادية وشراء الغاز كما هو مع روسيا مثلا، وبعض العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار، خاصة في استراتيجية طريق الحرير البري؛ مبادرة "الحزام والطريق" لإدراك الصين حجم القوة البحرية الأمريكية وسيطرة أمريكا على طرق الملاحة والبحار وقدرتها العملاقة على الوصول والحركة.
إن العلاقة بين الصين وأمريكا هي علاقة تنافس، تحكمها سياسة الاحتواء الأمريكية تجاه الصين، وسياسة النفس الطويل والسياسة الناعمة من الصين، وعدم الاحتكاك في المرحلة الحالية إدراكا من الصين لحجم الفارق بينها وبين أمريكا، وكثرة الأدوات بيدها.
رأيك في الموضوع