ما حصل في تسليم درعا قد يختلف من حيث الشكل لا من حيث المضمون عما حصل فيما قبلها من تسليم للمناطق والسلاح في حزام دمشق والغوطة والقلمون وقبلها حمص المدينة وحلب ثم شرقي سكة القطار فيما يعرف بريفي حماة وإدلب الشرقي ثم ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي.
لقد استطاعت أمريكا وعملاؤها من الدول التي زعمت صداقة الشعب السوري أن يزرعوا عملاءهم في الفصائل بل أوصلوهم إلى قيادتها عبر المال السياسي القذر، فقام أولئك بتخدير المجاهدين وتجميد الجبهات والدخول في هدن ومفاوضات سمحت للنظام باستعادة زمام المبادرة عبر جلب المليشيات اللبنانية والعراقية والإيرانية وجلب سلاح الجو الروسي مما أدى إلى إدخال الثورة في نفق مظلم ومنعرج قاتل من تقطيع أوصالها والاستفراد بمناطقها وحصار أهلها والضغط عليهم بالحصار والتجويع والقصف والتدمير والتهجير، مما يتخذه قادة الفصائل البائعون مبررا للمصالحات وتسليم المناطق بشكل مأساوي مذل اقتلع الناس من أرضهم وهجرهم بعد ما عانوه من القتل والحصار...
وما حصل في درعا كان الأسوأ من حيث تسليم المناطق بسرعة مفاجئة لأهلها والانضمام إلى المجرمين الروس وفيلقهم الخامس رغم أن عوامل الصمود كانت أكبر، إلا أن الخيانة كانت أكبر والسقوط المريع كان أسرع، وإن اختلف المشهد بالشكل فالانضمام للروس لا يختلف عن الانضمام إلى النظام فهم في الإجرام والعداوة شركاء.
ورغم تآمر قادة الفصائل المباعين بالدولار وإدخالهم للشرطة الروسية ورفعهم علم النظام إلا أن الضغط الشعبي كان موجودا ورافضا لهذه الخيانات مما جعل إعلام النظام يصور ويخرج على عجل ويقوم الناس بعد ذلك بتمزيق علم النظام وتكسير صور المجرم بشار وهذا يدل على أن الأمة فيها خير كثير لولا أن أمريكا وعملاءها ركزوا على صناعة القادة العملاء بالدولار وعملوا على محاصرة الناس وإغلاق الحدود الدولية للضغط على الحاضنة الشعبية غذائيا وصحيا وسكنيا حيث وقف الناس على حدود الأردن يستجدون الماء والدواء ولا من مجيب، وكذلك الأمم المتحدة التي أغمضت عينيها عن كل تلك الجرائم وأصمت أذنيها عن الاستغاثات فلم تقم بدورها الإغاثي المزعوم الذي تدعيه في مثل هذه الظروف...
والسؤال الذي يشغل بال الناس اليوم: ماذا بعد درعا وما هو مصير إدلب؟
إن الحل السياسي لا يمكن أن تنجزه أمريكا والدول العميلة لها أو تعلن عنه وهناك بارودة توحد الله وتكبره، لذا لا بد من إنهاء الحالة الجهادية في إدلب والشمال فهناك سيناريوهات عدة؛ فقد يكون بجمع السلاح تدريجيا الثقيل ثم المتوسط في مرحلة لاحقة من قبل تركيا لصالح جيش وطني يرقص على أنغام الأغاني الوطنية الكاذبة التي مل الناس سماعها من قبلُ ليندمج هذا الجيش مع بقايا جيش النظام والقوى التي يقوم الروس بتشكيلها الآن، وقد يصحب هذا السيناريو مطلب إدخال الشرطة الروسية إلى المنطقة بحجة حماية الأوتوستراد وفتحه من باب السلامة مرورا بحلب إلى دمشق ثم إلى معبر نصيب، ومعلوم ما في هذه الخطوة من الخطورة؛ فالروس لم يلتزموا بحماية مكان دخلوه بل كانوا حصان طروادة الذي مكن لقوات النظام من احتلال المناطق وتهجير أهلها وسلبها، وقيادات الفصائل في الشمال لا تختلف كثيرا عن سابقاتها الذين سلموا، فالكل رضع من ثدي واحد وشرب من كف واحدة هي الموك والموم.
ومن المتوقع أن تمارس تركيا ضغطا كالتهديد بالانسحاب فيما إذا حاول البعض أن يعرقل مشاريع الاندماج بجيش وطني ودخول الروس لحراسة الأوتوستراد، بل إن التصريحات التركية حول سحب نقاط المراقبة وإنهاء حالة خفض التصعيد فيما إذا هاجم النظام إدلب، هذه التصريحات التي تتظاهر تركيا أمامها بالعجز وتمهد بها لسحب نقاطها التي حمت بها النظام طوال أشهر سحق الغوطة وريفي حمص وحماة والقضاء على أهل درعا، هذه التصريحات ذات دلالة خطيرة وهي تذكرنا بتصريحات الأتراك حول الغوطة عندما قالوا إنهم مستعدون لاستقبالهم في تركيا فكانت رسالة تهجيرهم، بل إنه من المرجح أن تفتعل تركيا أزمة مع بعض الفصائل لمحاصرة المناطق ومنع المواد الغذائية وسواها بعد سحب نقاطها لكي يلجأ الناس إلى النظام فيكون ذلك مبررا لعودته من باب المصالحات وتقديم الخدمات والتي لا بد لإقامتها من رفع علم النظام على المباني الحكومية وإزالة علم (الثورة) الذي صدعوا رؤوسنا به وبقدسيته التي ستسقط أمام الدواء والغذاء والماء والكهرباء، فالرؤى والمشاريع التي لا تحكمها المبادئ سرعان ما تسقط وتتلاشى ويكون الانهيار الكبير، هذه هي السيناريوهات المتوقعة لإدلب بعد درعا، وتركيا هي حصان طروادة فيها، وهي في المضمون لا تختلف شيئا عما حصل في درعا وما قبلها إلا في الشكل لينتج بعد ذلك الحل السياسي المذل المهين الذي يسعى إلى إنتاج النظام بكل مؤسساته القمعية والعودة إلى حكم الحديد والنار.
وأمام هذا الواقع لا بد للبقية الباقية من المخلصين الذين تجمعوا من كل المناطق في إدلب والشمال، وهم قوة لا يستهان بها، أن يخرجوا من الحالة السابقة ويتركوا القيادات المتاجرة وأن يتوحدوا خلف قيادة سياسية واعية تحمل مشروعا سياسيا حقيقيا؛ خلافة على منهاج النبوة بقيادة حزب التحرير، وقيادة عسكرية محترفة لمواجهة المرحلة المقبلة قبل أن يجهز العدو وعملاؤه وضفادعه على هذه القوة التي تستطيع أن تقلب المعادلة إذا اجتمعت على قيادة سياسية ومشروع ينصر دين الله.
لقد وضح للجميع أن هذا هو الحل السياسي الأمريكي الذي أرادته بطريقة مأساوية ومذلة لأهل الشام لكيلا يفكروا مرة أخرى هم أو غيرهم بالثورة على عملائها بينما سقط عملاء بريطانيا كزين العابدين والقذافي وعلي عبد الله صالح.
وإذا أدركنا ذلك فمن المحزن أن يسير أغلب بني جلدتنا وأهل ثورتنا في هذا المسار الذي يعيدنا إلى حكم الحديد والنار من عملاء أمريكا القدامى والجدد فلا بد من أن نأخذ على يد أبنائنا وأهل ثورتنا من هذا المنزلق الخطير.
بقلم: الشيخ محمد سعيد العبود
رأيك في الموضوع