أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أمرا بمنح المرأة حق قيادة السيارة، واستند المرسوم الملكي إلى "ما يترتب من سلبيات من عدم السماح للمرأة بقيادة المركبة، والإيجابيات المتوخاة من السماح لها بذلك مع مراعاة تطبيق الضوابط الشرعية اللازمة والتقيد بها".
لقد كان العقد الأخير من القرن المنصرم قد شهد صعودا كبيرا لما يسمى بالحركة الإصلاحية في السعودية (التي هي فعليا معول هدم وتخريب لعقول السذج)، وساعدها في ذلك الانفتاح الإعلامي الكبير من قنوات فضائية وشبكة الإنترنت، ورأينا ما يسمى بالتيارات الليبرالية التي تدعو إلى الحرية للفكر والدين والتراث، والإصلاح الديني والتعليمي والاجتماعي، وإشاعة ثقافة التنوع والتعدد والاختلاف، وتبني منهج الحداثة والتجديد، والانفتاح على الحضارات والتجارب الأخرى، فهي كما "يظهر" تدعي الإصلاح في البلد، وتطالب بحقوق المرأة المسلوبة، بينما فعليا هم يريدون تغريب المجتمع، والقضاء على أخلاقياته وقيمه وثوابته. وقد اتخذوا من بعض القوانين المتوارثة عندهم كمنع المرأة من قيادة السيارات مطية لتحقيق أغراضهم الخبيثة ووضع اللوم على الإسلام وقوانينه وأحكامه. حيث تتبع الحكومة هنا أسلوب التضليل بإيهام الناس بأنها تطبق الشريعة الإسلامية بينما هي في الحقيقة تتبع الهوى في التشريع. فهو نظام مليء بالتناقض والازدواجية، فمن جهة يمنع المرأة من قيادة السيارة بحجة منع الفتنة في المجتمع وبالمقابل يسمح بوجودها منفردة مع سائق أجنبي! ويمنع الاختلاط في أماكن وبالمقابل نجده يسمح للقنوات الفضائية الفاسدة المفسدة مثل روتانا ومثيلاتها من العمل بحرية في الدولة لتروّج المفاهيم التحررية الغربية كالاختلاط، وأنماط الحياة الغربية المنفتحة التي هي بلا قيود ولا أخلاق! فهو لا يريد تطبيق الإسلام والمحافظة على كرامة المرأة ولا يعير أي أهمية لمشكلة الانهيار الأخلاقي في المجتمع، بل غرضه إرضاء الليبراليين في المجتمع مع المحافظة على رضا الأطراف ذات الميول الإسلامية من أجل أن يحافظ على شعبيته ويحمي كرسي الحكم.
وقد دأبوا كل حين على إثارة قضية منع النساء من القيادة وكأنها قضية مصيرية محورية!! والتي كما قلنا آنفا تعود للعادات والتقاليد وليس لها علاقة بأحكام الإسلام. وها هو صدر القرار أخيرا بالسماح للمرأة بقيادة السيارة والذي ظهر على أنه نصر كبير للمرأة وحقوقها! مع أن الناظر لحقيقة الأمر يرى أن القضية هنا ليست القيادة بحد ذاتها بل طراز الحياة الغربية، وإن الأمر يتجاوز المطالبة بقيادة السيارة إلى ما هو أكبر بكثير من هذه التفاهات، وهو زعزعة الدين وإضعافه من خلال بعض المطالبات التي تبدأ بسيطة وتكبر ككرة الثلج إلى أن يأتي اليوم الذي يتم فيه المطالبة بإزاحة الدين وإحلال القوانين الوضعية التي تتناسب وتوجه الغرب الواعي تماماً لـمقولة الفاروق عمر رضي الله عنه: (نحن قوماً أعزنا الله بالإسلام فإن ارتضينا العزة بغيره أذلنا الله).
فالمسألة ليست مسألة قيادة سيارة والكفاح لنيل هذا الحق، بل اعتماد مبدأ المساواة والسعي تدريجيا لتنفيذ اتفاقية سيداو وغيرها من قوانين وضعية فاسدة مفسدة بحجة الإصلاح. هي حرب من أجل تغيير نسيج المجتمع؛ حرب المضبوعين الذين يدّعون الإصلاح من أجل نشر الحياة الغربية، خاصة مع إطار "رؤية 2030" للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتي تبناها ولي العهد محمد بن سلمان. وكما جاء في العربية في تقرير لها أن هذا القرار سيكون فاتحة لمزيد من الإصلاحات بما يصب في مصلحة حقوق المرأة. واستشهدت بعدة "إصلاحات" في الفترة الأخيرة.
ومن الجدير بالذكر أن المملكة أدخلت قبل أشهر قليلة تعديلات على نظام "ولاية الرجل" على المرأة، أمرت بموجبها باستثناء نشاطات منه، بيْد أن ناشطات سعوديات طالبن بإلغاء هذا النظام برمته، وإلغاء نظام "الوصاية" أو الولاية حتى في الأمور التي فرضها الشرع كالزواج والسفر!
وكذلك هناك خطوات أخرى للتغيير قد تشهدها السعودية على يد ولي العهد تشمل تطوير المنتجعات السياحية على طول ساحل البحر الأحمر، حيث سيتم بناء المنشآت وفق المعايير الغربية، الأمر الذي يسمح ليس فقط بالاختلاط للجنسين، بل بارتداء "لباس البحر" وربما شرب الخمور!
وتماشياً مع هذه الرؤية، تأسست الهيئة العامة للترفيه لتقوم على تنظيم وتنمية قطاع الترفيه في السعودية وتوفير الخيارات والفرص الترفيهية لكافة شرائح المجتمع في كل مناطق المملكة، "لإثراء الحياة ورسم البهجة"!، ولتقوم على تحفيز دور القطاع الخاص في بناء وتنمية نشاطات الترفيه. وقد كشفت هذه الهيئة عن تفاصيل برنامجها للعام الجاري 2017 والذي يتضمن فعاليات غير مسبوقة، بينها الترخيص لإقامة حفلات غنائية وإجراء دراسة حول إقامة صالات سينما فيها. وهذا ما حصل في الاحتفال باليوم الوطني الـ87، حيث نظمت حفلات غنائية راقصة ومختلطة في العاصمة الرياض. وتداول ناشطون على مواقع التواصل الإلكتروني مقاطع فيديو تظهر عدداً كبيراً من السعوديين "رجالا ونساء" وهم يرقصون مع بعضهم خلال هذه الاحتفالات.
ولا يخفى عن المشهد هنا ما يسمى بـ"هيئة كبار العلماء" في السعودية، والتي رحبت، وأيدت، ومدحت، وأوجدت التخريج الشرعي للقرار! وكتبت تغريدة في حسابها على تويتر تعقيباً على القرار تقول فيها: "حفظ الله #خادم_الحرمين_الشريفين الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره #الشريعة_الإسلامية"؛ فإذا كان الأمر كذلك، فمن الذي كان يمنع ويحرِّم ويجرِّم؟! أليست هيئة كبار العلماء هذه والتي استشهد بها الملك سلمان في قراره وسارعت بالترحيب به، هي نفسها التي كانت قد أصدرت عام 1990 فتوى تعتبر قيادة المرأة للسيارة أمرا مخالفا للشريعة الإسلامية؟!! أوَلم يُفْتِ مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ مجددا وقبل شهور معدودة بأن "قيادة السيارة قد تفتح على المرأة أبواب الشر، ولا تنضبط أمورها، فالواجب المطلوب منا ألا نقر هذا الأمر لأن هذا أمر خطير يعرّضها للشرور"؟!! هل أغلقت أبواب الشر هذه بين ليلة وضحاها فأقروا بالسماح لها بالقيادة؟!! ألا ساء ما يحكمون!
نخلص مما سبق أن هذا القرار ليس انتصارا لحقوق المرأة كما يزعمون، وليس التزاما بحكم الشرع الذي يبيح ذلك، بل هو جزء من "علمنة" السعودية وسير حثيث نحوها، ولعل هذا ما يفسر ترحيب واشنطن السريع بالخطوة السعودية، وترحيب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالقرار، معتبراً أن القرار - وفق بيان نشره البيت الأبيض - "خطوة إيجابية تجاه حقوق المرأة السعودية والفرص المتاحة لها في البلاد". كما أشادت الخارجية الأمريكية بالقرار التاريخي، معتبرةً إياه "خطوة إيجابية في الطريق الصحيح...
إذن هذا القرار وغيره سيكون بمثابة صدع في السد الذي يسمح للعلمانية بالفيضان، وبالتالي العمل على مسح الهوية الإسلامية لبلاد الحرمين الشريفين... لكن بإذن الله سيفشلون وتذهب ريحهم.
بقلم: مسلمة الشامي (أم صهيب)
رأيك في الموضوع