منذ منتصف القرن الماضي، تعاقب الرؤساء الأمريكان وتبدّلت الأجواء الدولية وتغيّر المسرح الدولي، ولم تتزحزح الرؤية الأمريكية عن غاية تحقيق حل الدولتين عبر المفاوضات، ومع ذلك ظلّت واشنطن قبلة قادة منظمة التحرير بل (التفاوض والتفريط) الفلسطينية، وبدل أن يتوقف مشهد المفاوضات الهزلي فإنه يستقطب لاعبين جددا، ممن يريدون أن ينضموا إلى جوقة اللاهثين خلف الوعود الأمريكية، ومن الذين صاروا يُصوّرون المقاومة على أنها "ورقة ضغط" على طاولة المفاوضات الأمريكية، وصاروا يعتبرون الدويلة الموعودة (أمريكياً) محل توافق وطني، ولذلك برزوا كمنافسين لقادة المنظمة على مسرح العلاقات الدولية، وفي أروقة الأنظمة العربية، ليستمر المشهد المخزي والمضلل.
ضمن هذه الخلفية يمكن فهم أهداف وخلفيات الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس السلطة الفلسطينية لواشنطن، وهي التي تجلّى فيها الهدف الأساس من تجديد صفته التفاوضية والتمثيلية، مع تأكيد المسار الأمريكي نحو "حل الدولتين"، وذلك بعد تسلّم الرئيس الأمريكي الجديد مهامّه، وهو الذي يصف نفسه بأن "غير متوَقَّع التصرفات"، وخصوصا بعد صدور تصريحاته التي بدت - للحظة - كأنّها متناقضة تفتح الباب نحو العودة لحل الدولة الواحدة.
إن الأجواء التي سبقت تلك الزيارة كانت - ولا زالت - ملبّدة بغيوم الصراعات التنافسية داخل حزب السلطة، والصراعات الفصائلية والتجاذبات بين السلطتين في رام الله وغزة، وما رافقها من إعلان وثيقة حماس الجديدة التي تعطي قادتها فرصة التنافس القوي مع قادة المنظمة على سكة "الدولة الفلسطينية" عبر الحراك الدولي. وذلك يكشف عن حاجة لتثبيت رئيس السلطة كمفاوض وممثل للقضية. ومن هنا حرص عباس على الإغراء السياسي عبر الترويج للتطبيع مع 57 دولة عربية وقائمة في البلاد الإسلامية. وفي محاولة لسحب البساط من تحت أرجله، جاءت تصريحات حركة حماس تعقيبا على الزيارة - على لسان القيادي سامي أبو زهري - التي جاء فيها: "إن كل ما صدر عن الرئيس الفلسطيني من مواقف في المؤتمر الصحفي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يلزم أحدا، مضيفا أنه لا أحد فوضه بتمثيل الشعب الفلسطيني". (الجزيرة نت 4/5/2017).
وإذا أضفنا لذلك الواقع الفلسطيني المبعثر والمتشظي، انشغالَ أمريكا في ملفات إقليمية ودولية حساسة، من مثل الملف السوري المتفجّر، وملف التحسّب من بروز الصين كمنافس اقتصادي عالمي، وما ارتبط به من منكافات سياسية وتهديدات مع كوريا الشمالية، ثم طبيعة التوافق في الخلفيات الصدامية بين نتنياهو وترامب، نجد أن نتائج هذه الزيارة لا تعدو رمي حصوة في بركة راكدة، تُحرك الأمواج الإعلامية وتُمتع اللاهين، ولن تتقدم خطوة على سكة الحل.
وفي المجمل، فإن نتائج تلك الزيارة أنها أعادت السياق السياسي للسلطة الفلسطينية، وأعطت قادتها فرصة التقاط صورة مع ترامب، وفرصة الجلوس على طاولته والشعور النفسي بشيء من الثقة أمام المتغيرات المتلاحقة، عبر ادعاء "مراكمة الإنجازات". ولذلك نقلت فرانس برس عن حسين ايبيش الباحث والخبير في عملية السلام، إن زيارة واشنطن منحت عباس ثقة أكبر: "إنها جرعة من الأدرينالين لمريض معتل" (ميدل إيست أون لاين 5/5/2017). فيما نفت وجود "صفقة سياسية"، ونقلت عن ديفيد ماكوفسكي المستشار السابق في وزارة الخارجية الأمريكية "لست متفائلا بوجود صفقة كبيرة". ولذلك لم تتمخض الزيارة سياسيا عن أكثر من وعود بمفاوضات جديدة.
أما النتيجة الميدانية الأهم فهي تعظيم الدور الوظيفي للسلطة الأمنية، ضمن مهام ما يدعونه من "محاربة الإرهاب"، بل تجاوز ذلك إلى الحديث عن "إيجاد سبيل لوقف التحريض على العنف"، وهو يعني ميدانيا مزيدا من التغول السلطوي. وفي هذا السياق، تنقل صحيفة فلسطين (6/5/2017) عن مراقبين، بأن الحديث يدور هنا عن "مكافحة المقاومة" الفلسطينية، التي تُصنّفها واشنطن بأنها (إرهاب)، ولعل هذا ما يبرز مشاركة رئيس المخابرات الفلسطينية في الوفد الفلسطيني لواشنطن.
ورغم كل هذه الحقائق، تجد إصرارا فصائليا على اللهث خلف وعد الدولة الفلسطينية (على حدود 67). وبكل أسف، تشرئبّ الأعناق متلهفة إلى نظرة عطف أو "لحظة جرأة" أمريكية من أجل التقدم نحو وهم الدولة الفلسطينية مع كل رئيس جديد، بينما تتابع المخططات الصهيونية فوق أرض فلسطين بعيدا عن ذلك الحلم الزائف، وذلك عبر توسعة النشاط الاستيطاني، وعبر تعزيز التنسيق الأمني وتمكين ضبّاطه من مفاصل البلاد، وعبر إلهاء الفرقاء في الفصائل الفلسطينية في معركة التنافس على السلطة وعلى التمثيل السياسي، أو عبر مزيد من الجرائم الدموية والحصار وتعاظم أعداد الأسرى ومعاناتهم. ورغم ذلك ورغم العناد الليكودي لإجهاض حل الدولتين، لا يتزحزح قادة الفصائل عن طرح حل الدولة الفلسطينية على حدود 1967، بل على العكس من ذلك يستقطب مزيدا من الاهتمام، ومزيدا من العازفين على ألحانه.
إن المقام يتطلب نصيحة مخلصة إلى كل فاعل على الساحة العامة بأن فلسطين ليست قضية فصائلية، ولا قضية سلطوية، ولا قضية سياسية بحتة تحلّ في المحافل الدولية، أو عبر الأطروحات السياسية، بل هي قضية عسكرية تستوجب الحراك السياسي في الأمة الإسلامية لحشد قواها العسكرية نحو مشروع التحرير، لا الحراك السياسي في واشنطن أو على منصات الأمم المتحدة لحشد القوى الدولية نحو تحقيق حل الدولتين الذي يصفّي قضية فلسطين حسب الأجندة الأمريكية. ومن هنا كان لزاما على المخلصين تعزيز التواثق على مشروع التحرير العسكري، لا التسابق على مشروع حل الدولتين.
ولذلك فإن الأولى بكل من حمل سلاح المقاومة، أو ظل وفيّا لتاريخه النضالي - من مختلف الجهات - أن يستعيد زمام المبادرة الصحيحة، ويُعيد طرح القضية على أساسها الصحيح، لا أن يتلهى بمعركة التنافس على التمثيل، فالتمثيل لا يحتاجه إلا المفاوض، أما المقاوم والمجاهد فلا يمكن أن يلتقي مع نهج تمرير التنازلات، أو تبرير "المقاربات" والتوفيقات السياسية التي تتفتق عنها أذهان القادة الذين يُدحرجون قضية فلسطين من منحدر إلى آخر...
رأيك في الموضوع