النظام الرئاسي يلقي بظلاله على جدول الأعمال في تركيا من جديد. فقد نوقشت هذه القضية لسنواتٍ طويلة، وأطلت برأسها على جدول الأعمال حيناً بعد حينٍ من قبل بعض الحكام من أمثال تورغوت أوزال، وأبدوا تذمرهم من النظام البرلماني الذي هو نظام إنجليزي، وقالوا: إن هذا النظام وصل إلى طريقٍ مسدودٍ ولم يعد بإمكانه حل المشاكل. لكن كل هذه الجهود لم تتمكن من تحقيق نتائج ملموسة حتى صعود أردوغان إلى السلطة، وأردوغان بدوره يبدي حرصاً شديداً على النظام الرئاسي لأنه يعزز سلطته بشكلٍ كبير. وأمريكا بدورها تحرص على النظام الرئاسي لأنها ترى فيه إمكانية تخليص تركيا تماماً من النفوذ الإنجليزي، وتأسيس هيمنتها فيها، لذلك تدعم طلب أردوغان وسعيه هذا.
وقد تم طرح موضوع النظام الرئاسي في جدول الأعمال من قبل أردوغان حتى وقوع المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز. وظل يتكلم في خطاباته ولقاءاته وتصريحاته عن النظام الرئاسي ويؤكد عليه، لكنه لم يجد الاهتمام الكافي في الإعلام والأروقة السياسية، وبقي الرأي العام ينظر إلى الأمر على أنه حرص أردوغان على الحكم والسلطة. حتى إن أردوغان لم يجد الدعم الكافي من الحزب الذي أسسه. وقد تميزت المرحلة التي كان أحمد داود أوغلو يتولى فيها منصب رئيس الحزب ورئاسة الوزراء بأنها المرحلة الأشد التي بقي فيها أردوغان وحيداً في هذا الموضوع. وعندما تعرض حزب العدالة والتنمية للهزيمة في انتخابات 7 حزيران عبر عنها أحمد داود أوغلو بأنه تصويت على النظام الرئاسي، وأن الشعب لم يختر النظام الرئاسي، وكان ذلك بمثابة إشارة تحذير وتنبيه لأمريكا. فالولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في الائتلافات التي تعزز من قبضة الإنجليز في تركيا. فكان العمل الأول لأمريكا وأردوغان يتمثل في العمل على صناعة استراتيجية وطنية من هزيمة 7 حزيران لاستعادة النصر في انتخابات 1 تشرين الثاني، وعملا معا على إنهاء أحمد داود أوغلو. ثم جاءت محاولة انقلاب 15 تموز لتعيد طرح النظام الرئاسي من جديد من قبل أمريكا وأردوغان، وتسويقه كشرط أساسي لا بد منه لضمان مستقبل تركيا.
فعندما أخفقت محاولة انقلاب 15 تموز، قام أردوغان بتصفية الموالين للإنجليز في القوات المسلحة التركية وغيرها من مؤسسات الدولة، مستغلاً أجواء المحاولة الانقلابية، لتعزيز سلطته وتأمينها، وحماية المكتسبات الأمريكية. وقد قام أردوغان بهذه التصفيات تحت غطاء جماعة غولن. واستعمل بذلك لغة مهادنة مع الكماليين. والحقيقة أن أردوغان خدعهم بخطابه المهادن الذي استعمله معهم. وقد تغير سلوكه وخطابه هذا معهم نحو التشدد والقسوة بعد عودته من قمة الأمم المتحدة. وحديثه عن لوزان، والعملية التي قام بها ضد صحيفة الجمهورية، واعتقال نواب حزب الشعوب الديمقراطي أدلة على هذا التشدد في الخطاب والسلوك. والخطاب القاسي الذي يتناول به الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية يعود كذلك إلى الجرأة التي منحته إياها أمريكا.
في الفترة الأخيرة تراجع أردوغان عن خطئه في تسيير دعاية النظام الرئاسي بمفرده. ورأى وقوف حزب الحركة القومية إلى جانبه ويكون له بمثابة المنقذ. وحصل أردوغان على دعم وتأييد حزب الحركة القومية وأمينه العام دولت بهتشلي في موضوع النظام الرئاسي، وحشد شريحة المحافظين القوميين "اليمين" في كتلةٍ، ودفع شريحة الكماليين الجمهوريين والقوميين الأكراد "اليسار" إلى كتلة أخرى. أي أنه شرع في إعداد الأرضية لتشكيل كتلة سياسية ثنائية الحزب اللازمة من أجل النظام الرئاسي. يتضح من هذا كله أن أردوغان لم يعد إلى تركيا إلا بعد أن حصل على دعم واضح وصريح للنظام الرئاسي من اللقاء الذي جمعه بأوباما في أمريكا عندما ذهب لحضور قمة الأمن النووي في نيسان 2016 ومن زيارته التي قام بها إلى أمريكا للمشاركة في اجتماع الأمم المتحدة بعيد انقلاب 15 تموز. وهنا يجب أن أنوه إلى أمر مهم ألا وهو أن أمريكا عندما أعطت هذا الدعم لأردوغان طلبت منه المزيد ونالت مطالبها هذه. فأردوغان نفذ حرفياً ما تريده أمريكا فيما يخص سوريا والعراق. ومن أبرز الأمثلة على ذلك استعمال قاعدة إنجرليك والمصالحة التي تمت مع كيان يهود وروسيا وعمليات درع الفرات.
تهدف أمريكا من دعمها للنظام الرئاسي إلى أن تسيطر على تركيا وتستلم زمام الأمور فيها كلياً. أما أردوغان فيريد عبر هذا النظام أن يضمن حياته السياسية باعتباره القائد صاحب الامتيازات الذي لا يقبل منافساً. هذان الموضوعان واضحان وضوح الشمس. ولكن حتى يتحقق هذا الأمر، من المهم بمكان أن نعرف كيفية إدارة هذه الفترة من قبل ترامب رئيس أمريكا وأردوغان أول رئيسٍ منتظرٍ لتركيا. إن فوز الجمهوريين بالانتخابات الرئاسية لن يغير شيئاً في أسس سياسة أمريكا الخارجية الاستعمارية، ولكن أسلوبها سيشهد بالتأكيد مزيداً من الحدة والشدة. أي أنه يتبين أن الحكومة التي سيؤسسها ترامب سوف تستعمل أسلوباً أكثر حدةً وشدةً في كفاحها ضد العالم الإسلامي لأن تعيين مايك فلين مستشاراً قومياً لترامب ينذر من الآن بذلك. ففلين لا يرى الإسلام ديناً، بل أعنف أيديولوجية تهدد أمريكا. هذا التصور الذي ترى فيه أمريكا الإسلام تهديداً هو حقيقةٌ. ولكن هناك حقيقةٌ خفيةٌ أخرى معروفة من قبل حكومة أوباما والحكومة الجديدة التي سيشكلها ترامب، حقيقةٌ لا يُعتبر فيها تنظيم الدولة هو الذي يهدد أمريكا. في هذه الحال يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال المهم: ماذا ستطلب أمريكا من أردوغان مقابل ضمانها للنظام الرئاسي في تركيا؟ وكيف ستكون العلاقة بين أردوغان الذي يزعم بأنه شمر عن ساعديه لقيادة العالم الإسلامي، والدفاع عن حقوق المسلمين، والالتزام بقضايا سوريا ومصر وفلسطين، وبين الإدارة الأمريكية الجديدة التي تتوجه لإعلان الحرب على العالم الإسلامي؟ وكيف سيخفي هذا التعاون عن العالم الإسلامي؟ وهل سيغض المسلمون الطرف عن التنازلات الكبيرة التي سيقدمها أردوغان في سبيل الحصول على النظام الرئاسي؟
بقلم: محمود كار
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تركيا
رأيك في الموضوع