يتساءل العالم عمّا سيحقّقه انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة. فقد اتسم خطابه بالتطرف؛ الكثير من وعود حملته الانتخابية كانت صادمة، وتاريخ تجربته الطويلة والواسعة كرجل أعمال وطبيعة أخلاقه المنحطة أثارت مشاعر الاشمئزاز. ولكنه قد فاز، والآن هو الرئيس المنتخب للدولة الأولى في العالم، فما الذي يجب أن تتوقعه أمريكا وبقية العالم منه؟ فهل سيمنع هجرة المسلمين إلى أمريكا، وهل سيفرض على المسلمين الذين يعيشون هناك تسجيل أنفسهم كما وعد؟ وهل سيبني جدارًا على الحدود مع المكسيك، ويرسل لهم الفاتورة كما وعد؟ وللإجابة على هذه الأسئلة وغيرها الكثير حول ما يمكن تَوقُّعُه عندما يتسلم ترامب مهام منصبه في 20 كانون الثاني/يناير 2017، لا بد للمرء أن يكون واعيًا على طبيعة السياسة الأمريكية وكيفية صياغة سياساتها ودراسة الأحداث قبل وبعد الفوز الانتخابي.
من المهم أن نتذكر أنّ ترامب حصل على تأييد الحزب الجمهوري قبل فوزه بتأييد الشعب الأمريكي، وأنّه لا تأثير له دون حزبه، وأن حزبه لا ثقل له من دون المستثمرين ذوي الثروات الهائلة أصحاب الامتيازات وجماعات الضغط التي تمول الأحزاب السياسية في أمريكا. وعلى الرغم من ادعاء ترامب الشعبوي بأنه قد قام بتمويل حملته الانتخابية بنفسه، إلا أن معظم الدعم المالي قد جاء من النخب المتميزة المختلفة، وستستمر هذه النخب بتمويل حزبه وستستمر بدعم سياساتها، وليس سياساته، باستخدام وسائل متعددة من خلال مؤسسات الفكر والرأي، ووسائل الإعلام، والحملات الشعبية. وسيكون ترامب بحاجة لدعمهم المستمر لأنه سيواجه انتقادات من جماعات المصالح المنافسة والحزب الديمقراطي المعارض الذي خسر الانتخابات. ومن أجل مواجهة التحديات السياسية في المستقبل، يجب أن يحافظ ترامب على الدعم المستمر من حزبه الذي يسيطر حاليًا على مجلسي الكونغرس الأمريكي، ولكن هذا الحزب ليس كيانًا متجانسًا، فهو ينقسم إلى فصائل متصارعة.
ففي عهد إدارة بوش الأول، كان فصيل المحافظين الجدد هو الذي يسيطر على الحزب الجمهوري، وقد دعا إلى استخدام القوة العسكرية الأمريكية المباشرة وإلى استخدام القوة وحتى القيام بعمليات وقائية في جميع أنحاء العالم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. وبذريعة هجمات 9 أيلول/سبتمبر عام 2001، على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وبقيادة تشيني ورامسفيلد وولفويتز شنت إدارة بوش الحرب في أفغانستان والعراق في إطار ما يسمى "بالحرب على الإرهاب" التي تمجد استخدام التعذيب، وقاعدة خليج جوانتانامو سيئة السمعة كسجن لأعداء أمريكا خارج الولاية القضائية للقوانين الدولية ومعايير حقوق الإنسان. ومع ضعف الثقة بمذهب المحافظين الجدد، سيطر الحزب الديمقراطي على السياسة الأمريكية أولًا بقيادة بيل كلينتون ثم أوباما.
وخلال إداراة أوباما، عُرف القليل عن اتجاه داخل الحزب الجمهوري يُسمى "حزب الشاي" الذي قد أصبح قوة بارزة. والمنظمات مثل "مواطنون من أجل اقتصاد سليم" وبعد ذلك "أمريكيون من أجل الازدهار"، اللتان حصلتا على تمويل من الأخوة كوخ، قدمتا الدعم "لحزب الشاي" الذي بدأ بتشكيل معارضة جدية لسياسات أوباما الاقتصادية. وحزب الشاي يدعو عمومًا لفرض ضرائب أقل، وإلى خفض الإنفاق الحكومي وإلى تراجع تدخل الحكومة الاتحادية. وقد كانت هذه هي نفس المبادئ الأساسية لحملة ترامب. وقد وعد ترامب بإنهاء أحد أهم إنجازات أوباما التي يعتز بها، وهو عبارة عن قانون للرعاية الصحية بأسعار معقولة، ويُسمى أيضًا بأوباما كير.
أما في مسائل السياسة الخارجية، فإن حزب الشاي يدعو إلى شكل محدود لنظرية "الاستثناء الأمريكي" والتمسك بفكرة أن أمريكا، التي وُلِدَت من الثّورة، تختلف بطبيعتها عن جميع الدول الأخرى وتتفوق عليها. ومع ذلك، وعلى النقيض من المحافظين الجدد السابقين خلال فترة جورج بوش، فهو، أي حزب الشاي، يشكك بقدرته على صنع عالم ليبرالي يحاكي صورته. وقد أكد ترامب على تفرد أمريكا وتفوقها على العالم، وفي الوقت نفسه سخر من فكرة أنّه يجب على أمريكا الاضطلاع بمسؤولية التدخل في العالم باستثناء السعي من أجل تحقيق المصالح المادية. وخلال حملته الانتخابية، وصف ترامب العالم بأنّه أدنى منزلة، وقسَّمه إلى مصدر للثروات التي لا بد من الحصول عليها، أو مصدر للتهديد والذي يجب منعه من دخول أمريكا. وفي مقابلة تلفزيونية في عام 2011 مع مراسلة صحيفة وول ستريت كيلي إيفانز، قال ترامب إنه إذا جرى انتخابه فإنه "مهتم بليبيا فقط إذا أخذنا نفطها، وإذا لم نأخذ نفطها، فأنا غير مهتم بها". وفي نفس المقابلة، تحدث عن العراق تحت قيادته، فقال: "نحن سنكسب المال: هناك ما قيمته 15 تريليون دولار من النفط في العراق". وقد هدد ترامب أيضًا بأنه لن يستورد النفط من السعودية أو الدول العربية الأخرى إذا لم تدفع المزيد من الأموال من أجل مكافحة تنظيم الدولة أو ترسل قوات برية للمساعدة. وتحدث أيضًا عن الدول الأوروبية بنفس الطريقة المتعالية عندما قال إنّهم إذا أرادوا الحماية من روسيا من خلال منظمة شمال حلف الأطلسي، فعليهم أن يدفعوا المزيد من المال! أما بالنسبة لإبقاء التهديدات بعيدة، فقد وعد ترامب بوقف هجرة المسلمين وبناء جدار ضخم على الحدود مع المكسيك. وقد كانت أكبر شعارات حملته الانتخابية هي جعل أمريكا بلدًا عظيمًا مرة أخرى ووضع أمريكا أولًا. وقد وجّه ترامب تهديداته إلى السعودية خلال مقابلتين طويلتين عبر الهاتف، فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 26 آذار/مارس 2016 أنه قال: "سنكون على استعداد لسحب القوات الأمريكية من اليابان وكوريا الجنوبية إذا لم تزيدا بدرجة كبيرة مساهماتهما في تكاليف إسكان وإطعام تلك القوات"، وقال أيضًا: "إنه سيسمح لليابان وكوريا الجنوبية ببناء ترساناتهما النووية بدلًا من الاعتماد على المظلة النووية الأمريكية لحمايتهم من كوريا الشمالية والصين". وتهديدات ترامب المتغطرسة جعلت أمريكا أكثر احتقارًا في نظر العالم مما هي عليه بالفعل، لكنها لم تقدم بشكل كبير أي شيء جديد. وإذا كان ترامب يهتم فقط "بأخذ النفط"، فكيف يختلف ذلك عما حدث ويحدث منذ أن طردت أمريكا بريطانيا من مستعمراتها النفطية السابقة وأصبحت بذلك المستفيد الأكبر من نفط الشرق الأوسط؟ أما بالنسبة لليابان وكوريا الجنوبية وكذلك أوروبا، فقد تسعى الإدارة الجديدة إلى الضغط عليهم بشكل أكثر صرامة مما كانت عليه الحال في السابق، ولكن الخطاب المُتشدّد ليس سوى حيلة للمساومة ولكسب الناخبين.
وفي 21 تشرين الثاني/نوفمبر، بعد انتخابه، قدم ترامب ادعاءات أكثر تواضعًا في رسالة فيديو، نُشرت على حسابه في تويتر، سماها "تحديث وخطط السياسة لأول 100 يوم"، وكان تصريحه الحاسم الوحيد فيها قوله: "سأصدر إشعارًا بنية الانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ... وبدلًا من ذلك، فإننا سنفاوض على اتفاقيات تجارية ثنائية عادلة تُرجع الوظائف والصناعة مرة أخرى إلى الشواطئ الأمريكية". إنّ هذا يمثل اتجاه حزب الشاي في الحزب الجمهوري بخصوص السياسة الأمريكية في الداخل والخارج، ويظهر أن أمريكا ستتعامل مع الدول الأخرى بشكل فردي على أساس أخذ ما في وسعها بناء على قوتها، بدلًا من الالتزام بفتح علاقات تجارية حرة داخل التكتلات التجارية.
رأيك في الموضوع