انظروا إلى تركيا العثمانية وإلى تركيا العلمانية، وقارنوا بينهما؛ الأولى كانت إسلامية نظمها منبثقة من العقيدة الإسلامية، فكانت ضمن الدولة الأولى في العالم قوية وغنية ومهابة ترتعد منها فرائص العالم والأوروبيين بخاصة.
وأما الثانية فنظمها كافرة مستمدة من عقيدة فصل الدين عن الحياة، ضعيفة ربطت نظامها واقتصادها وجيشها وسياستها بالغربيين، فتنفذ أوامر الأمريكيين، وتتوسل إلى الأوروبيين منذ عام 1959، حيث قدمت استدعاء تطلب دخول السوق الأوروبية المشتركة، فبدأت المفاوضات بين الطرفين، فوقعا شراكة خاصة عام 1963، وطلبت تركيا الانضمام رسميا عام 1987، قبل أن تتحول السوق إلى اتحاد أوروبي عام 1992، ووقعت اتفاقية الاتحاد الجمركي الأوروبي عام 1995، واعترف بها رسميا كمرشح للعضوية الكاملة في الاتحاد عام 1999.
وقد قدمت تركيا طلبها رسميا للعضوية الكاملة في الاتحاد عام 2005، ففتحوا في وجهها ملفات عديدة تتعلق بكافة الأمور لتتلاءم مع معايير الاتحاد الأوروبي، أي لتخضع لسياسة الاتحاد بالكامل، وتخرج من دائرة النفوذ الأمريكي، وتبتعد أكثر مما هي مبتعدة عن الإسلام وقضايا المسلمين، ولا تتناولها إلا من زاوية النظرة الأوروبية، وتقدم التنازلات الكبيرة في قبرص وفي مسائل الأكراد والنصيريين والنصارى الأرمن وغيرها من المسائل الداخلية. فما دونها بكثير من الدول التي خرجت للتو من سيطرة الاتحاد السوفياتي قبلت عضويتها في الاتحاد الأوروبي من دون فتح ملفات في وجهها.
وكانت أمريكا وخاصة على عهد بوش الابن تضغط بقوة على الأوروبيين حتى يقبلوا تركيا عضوا في اتحادهم لتستعملها في التأثير على قرارات الاتحاد، كما تستعمل بولندا الواقعة تحت نفوذها، والتي لعبت دورا في عرقلة استصدار الدستور الأوروبي عام 2009، وخالفت الأوروبيين في العديد من القضايا كان آخرها مسألة توزيع اللاجئين. ولهذا السبب بقي الأوروبيون متوجسين من انضمام تركيا إلى اتحادهم خاصة بوجود نظام كنظام أردوغان مرتبط بأمريكا بشكل وثيق وينفذ سياساتها وإملاءاتها بحذافيرها، ويتصدى للنفوذ الأوروبي بقوة. ولذلك عندما أظهر رئيس الوزراء داود أوغلو ليونة تجاه الأوروبيين ووقع معهم اتفاقية الحد من تدفق اللاجئين عبر تركيا يوم 18/3/2016 فأعلنوا أنهم سوف يلغون هذا العام تأشيرة دخول أهل تركيا إلى دول الاتحاد. فلم يعجب أمريكا الموقف اللين الذي اتخذه داود أوغلو تجاه الأوروبيين، فأوعزت إلى عميلها أردوغان ليعزله، فما كان منه إلا أن عزله وهو صديقه ورفيق دربه ومستشاره ومحل ثقته، ولكن تلبية مطالب السيد الآمر في البيت الأبيض تأتي على رأس الأولويات لدى أردوغان! وعلى إثر ذلك انتكست العلاقات بين الأوروبيين وأردوغان، فوضعوا شروطا على موضوع إلغاء التأشيرة لأهل تركيا ليعرقلوا موضوع إلغائها. وكانت الحكومة الألمانية تعرقل التصويت على موضوع الإبادة الجماعية للأرمن في نهاية الدولة العثمانية، فرفعت الحكومة يدها عن العرقلة ومررت القرار يوم 2/6/2016 فزادت حدة التوتر بين تركيا وألمانيا اللاعب الرئيس في الاتحاد بجانب فرنسا التي صوتت على مثل ذلك من قبل.
وعندما جاءت محاولة الانقلاب على أردوغان يوم 15/7/2016 أيدها الأوروبيون واستبشروا بها لإسقاط أردوغان. فغضب أردوغان وزادت حدة التوتر بين الطرفين. وعندما واصل حملته على كل من يشتبه به أنه داعم للانقلاب، وما زال يواصل حملته بشدة، فيعتقل، ويعزل من الوظائف على كافة الأصعدة، ويضيق على الصحافة ووسائل الإعلام الموالية للأوروبيين، وآخرها كانت حملته على صحيفة الجمهورية صحيفة العلمانيين الكماليين الموالين للإنجليز والمتعاطفين مع الأوروبيين، فزادت أوروبا من حدة انتقاداتها لأردوغان، حتى إن وسائل الإعلام المحلية تهتم بالموضوع وتهاجمه.
إلى أن جاء يوم 24/11/2016 فاجتمع البرلمان الأوروبي ليتخذ قرارا غير ملزم للحكومات بتجميد مفاوضات انضمام تركيا مؤقتا. وذلك من أجل الضغط على أردوغان ليوقف حملاته تلك، وخاصة ضد الموالين لأوروبا، وليظهر مواقف لينة تجاه الأوروبيين ولا يتمادى في التصدي لهم تنفيذا للسياسات الأمريكية.
وفي اليوم التالي جاءت ردة فعل أردوغان مهددا بفتح الحدود أمام اللاجئين إلى أوروبا. واتهم الأوروبيين بالمماطلة في قبول تركيا، وهدد بإجراء استفتاء شعبي على مواصلة المفاوضات، وبإعادة تطبيق عقوبة الإعدام التي ألغاها بناء على طلب الأوروبيين. وهدد بالانضمام إلى معاهدة شنغهاي، علما أنها معاهدة أمنية في الأساس لمحاربة الإسلام والمسلمين تحت مسمى محاربة (الإرهاب) والتطرف وتجارة تهريب الأسلحة، وقعتها روسيا والصين مع كازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان عام 1996، ومن ثم انضمت إليها أوزبيكستان. فصرح أردوغان يوم 20/11/2016 بعدما سمع تهديدات الأوروبيين بأنهم سيقررون تجميد المفاوضات مع تركيا صرح قائلا: "تركيا لن تسعى بأي ثمن للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حصلت تركيا عام 2013 على وضع شريك حوار في منظمة شنغهاي للتعاون وأنها تستطيع أن تصبح كاملة العضوية فيها". فواضح من تصريحه أنه يريد استغلال ذلك للضغط على الأوروبيين حتى لا يستمروا في تشددهم تجاه انضمام تركيا، وأنه لا يريد التخلي عن محاولة دخول الاتحاد الأوروبي. لأن منظمة شنغهاي لا تحل محل الاتحاد الأوروبي، وليست ذات قيمة سياسية أو اقتصادية عالميا، فهي دون المستوى بكثير، وأمريكا يهمها انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى. وتركيا العلمانية تسعى لأن تكون أوروبية فهذه عقدة النقص لدى العلمانيين منذ أن أطلق مؤسسها مصطفى كمال شعار "لا إسلامية، لا طورانية، بل أوروبية"، فذلك أقصى غاياتها وأمنياتها، ولذلك لن تتخلى عن مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي. خاصة أن قرار تجميد المفاوضات الذي اتخذه البرلمان الأوروبي غير ملزم للدول الأعضاء وهو مؤقت، مما يدل على أن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يتخلى عن العمل مع تركيا ومحاولته كسبها والتأثير عليها، فذلك خسارة له لموقع تركيا المهم بالنسبة لأوروبا. فكل طرف محتاج للآخر من زاوية مناقضة للآخر. ولذلك قالت أولريكي ديمير المتحدثة باسم المستشارة الألمانية يوم 25/11/2016: "نعتبر الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي نجاحا مشتركا، والاستمرار به يصب في مصلحة كل الأطراف ولكن تهديدات من الجانبين لا تؤدي إلى نتيجة". فالاحتمال ليس القطيعة النهائية وإنما كل طرف يضغط على الآخر ليكون هو الكاسب.
ولكن النظرة من زاوية الإسلام تقول إن تركيا خاسرة سواء مع معاهدة شنغهاي أو مع الاتحاد الأوروبي، ويحرم عليها الانضمام إلى أي منهما. فلا عزة لتركيا إلا بالعودة إلى الإسلام، والعمل على توحيد حوالي ملياري مسلم لتشكل بهم ومعهم قوة عالمية لا تضاهيها قوة على وجه الأرض من كافة النواحي في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة. ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع