لم تتوقف عمليات القصف العشوائي على الأحياء السكنية بشرقي حلب على مدار الساعة منذ ستة أيام متواصلة، فمئات الغارات الجوية التي تُلقي بِحممها في جميع أرجاء الجزء الشرقي من المدينة، ما انفكت تنهال على رؤوس السكان ليل نهار، يُواكِبها سيل جارف من صليات قذائف المدفعية الثقيلة التي تدّك كل ما تطاله من حجر أو بشر أو شجر، فتُحيل المنطقة إلى رُكامِ رمادٍ ودخان.
وقد اعترفت الجهات التي تتبع الأمم المتحدة بصعوبة الوضع السكاني في المناطق الشرقية المحاصرة من مدينة حلب، وقالت بأنّ النّاس فيها يواجهون "لحظة قاتمة جدا" بدون إمدادات الطعام والدواء، في حين قال المستشار الإنساني في الأمم المتحدة جان إيغلاند: "إنّ الأمم المتحدة أعدت قوافل مساعدات لنحو مليون شخص في المناطق المحاصرة أو تلك التي يصعب الوصول إليها هذا الشهر، لكن لم تتمكن حتى قافلة واحدة من الوصول إلى وجهتها".
وتحدّث مراسل فرانس برس عن شدة القصف فقال: "إن عمليات القصف هي الأعنف منذ عامين"، فيما قال نجيب فاخوري رئيس ما يُعرف بالقبعات البيضاء: "لم أسمع على الإطلاق قصفاً مدفعيا بهذه الحدة في وقت سابق، وقد تلقينا نداء استغاثة من أجل إطفاء النيران لكننا لم نتمكن من الذهاب بسبب تساقط القذائف على الشوارع".
وقد وثق موقع أورينت نت بشكل تقريبي عدد الغارات الجوية الروسية، والتي استخدمت فيها القنابل الحرارية والفوسفور الحارق، منذ مطلع الشهر الحالي فذكر أنّها تجاوزت الـ 300 غارة جوية.
يُريد نظام الطاغية في دمشق، ومن يقف خلفه من هذا التصعيد الهمجي على مدينة حلب، تفريغ المدينة من سكانها المدنيين، ونشر الرعب في نفوسهم، وذلك بعد أنْ رفضوا سابقاً الخروج عبر مؤامرة الهدن الزائفة التي كانت روسيا تُعلنها، وكانت تُحدّد لهم منافذ للخروج منها، فلمّا فشلت تلك المؤامرة راحت تصب جام لهبها على المدنيين الأبرياء لترويعهم، وإيقاع أكبر أذى ممكن في صفوفهم، ومن ثمّ دفعهم للمغادرة، وكان لافتاً أنّ الغارات الروسية بالأسلحة غير التقليدية، وبالأسلحة المحرمة دولياً، تركزت بشكل رئيسي على المناطق المأهولة بالسكان، فلقد تمّ شن أكثر من 150 غارة جوية في فترةٍ قياسية بالقنابل الحرارية، والفوسفور الحارق، والصواريخ الفراغية، والقنابل العنقودية، وصاحب هذا القصف المتواصل استخدام مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة المدفعية والصاروخية، فالروس باتوا يعتبرون حلب حقل تجارب لأسلحتهم، وهم يقومون بعدوانهم الوحشي هذا بغطاءٍ أمريكي كامل، وبتواطؤ أممي صريح، فقد قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدى اجتماعه مع المستشارة الألمانية في برلين: "من السذاجة القول بأنّ روسيا ستتوقف عن هجومها على حلب"، ويُفهم من هذا التصريح للرئيس الأمريكي أنّ هناك تفويضاً أمريكياً كاملاً لروسيا بالعمل بكل ما في وسعها لإبادة المدينة وتهجير أهلها، وأنّ أمريكا لا تنوي إيقاف هجومها.
أمّا لماذا كل هذا التركيز في العدوان على أهالي مدينة حلب وريفها بشكلٍ خاص؟
فالجواب على هذا السؤال بات واضحاً لدى الروس والأمريكان، ولدى النظام وشركائه في إيران، ولدى كل من شايعهم وظاهرهم من أعداء الأمّة، وهو أنّ سر قوة المقاتلين، وثباتهم، واستماتتهم في القتال، يكمن في الدعم الهائل الذي تُقدّمه الحاضنة الشعبية لهم، فهي التي تُحمّسهم على الاستمرار في القتال ضد الطغاة حتى النهاية، وهي التي تُصرّ على رفض الاستسلام مهما بلغت التضحيات، بل إنّ هذه الحاضنة تقوم بتقريع كل من يتخاذل عن القيام بهذا الواجب، أو يتلكأ في مواجهة العدوان، وبالإجمال فهي تقوم بدور القوامة السياسية على الفصائل المقاتلة، وهي التي تُعرقل مخطّطات النظام الخبيثة، وهي التي تحطّمت على صخرتها جميع مؤامرات النظام وداعميه، فلو نجحت خُطّتهم التآمرية في إخلاء مدينة حلب - لا سمح الله - فإنّهم سينتقلون لتنفيذ نفس هذه الخطط في إدلب، وهو ما قد يؤدي إلى كسر شوكة الثورة، وبالتالي تدمير نواة ثورة الشام الصلبة، والقضاء على زخمها نهائياً، وتتحوّل مع الأيام إلى بقايا ثورة يسهل ملاحقتها وتصفيتها.
فمن ينتصر في معركة حلب ويُحكِم سيطرته عليها غالباً ما سيتمكن من إعادة ترتيب الوضع العسكري والسياسي في سوريا، لذلك كان استهداف حلب، واستهداف حاضنتها بشكلٍ خاص مقصوداً، وكان قصم ظهرها مطلوباً، لأنّها بكل بساطة هي التي تتولّى القيام بأخطر وأهم دور في ثورة أهل الشام، بل هي التي تضطلع بالدور الرئيسي في صمود المدينة أمام أعتى وأشرس الهجمات الروسية، كما أنّها هي التي تتحمّل في الوقت ذاته أشد أنواع الحصار المُطبق الذي لا يُسمح معه بإدخال أية مواد إنسانية.
إنّ معركة حلب هذه قد أظهرت من يُسمّون بأصدقاء حلب على حقيقتهم، وأثبتت أنّ ما يُقال عنهم أنّهم حلفاء للثورة وداعمون لها، خاصةً من دول الجوار كتركيا والسعودية والأردن وقطر، ما هم في الواقع سوى أدوات أمريكية متآمرة على الثورة، وإنّهم في الحقيقة أكبر المتخاذلين والمُخذّلين، وأنّ على الثوار أنْ لا يُعوّلوا عليهم، فهم عبء على من استعان بهم، وما زادوا الثوار إلا عنتاً ورهقا وخبالاً، لذلك كان على الثوار أنْ يُدركوا حقيقة أنّهم إذا أرادوا النصر فعليهم أنْ يقطعوا صلاتهم تماماً بكل الدول الإقليمية التابعة، وأنْ يقطعوا بالضرورة كل علاقاتهم مع القوى الكبرى التي تُحرّك تلك الدول، وما عليهم إلاّ أنْ يتوكلوا على الله وحده، فيثقوا بنصره لهم، فهو مولاهم وناصرهم حقيقة، كما أنّ عليهم أنْ يسعوا إلى وحدة فصائلهم، ورصّ صفوفهم خلف قيادة سياسية واعية مخلصة، تتبنّى مشروع الإسلام السياسي العظيم والذي هو مشروع أمّتهم الأصلي، وأنْ لا يلتفتوا مُطلقاً إلى مشاريع ومخططات الكفار، وهم إنْ فعلوا ذلك فسيضمنوا نصر الله لهم بإذن الله، والله غالب على أمره، ومُعِزّ دينه، ولو كره المنافقون.
رأيك في الموضوع