جرت العادة أن يُطلق مصطلح "المستوطنات" على التجمعات السكنية اليهودية في مناطق الضفة الغربية، وقطاع غزة قبل انسحاب يهود منه، وهذا الاصطلاح يتضمن إشكالية فكرية سياسية من زاويتين: الأولى أن المستوطنة هي في الحقيقة أرض "مغتصبة" من أصحابها، تم نزعها من سلطان المسلمين، بالقوة العسكرية، ولذلك فالأصل وصفها بالمغتصبات، وذلك من أجل التعبير عن حالة الاغتصاب القهري، والثانية أن المغتصبات لا تقتصر على أراضي الضفة الغربية، بل تشمل كل تجمع يهودي في كل فلسطين. وهذا المقال يسلط الضوء على الاستيطان وانعكاساته على العلاقات الأمريكية اليهودية، مع أجواء التصعيد الأمريكي ضده.
بداية، لا بد من التأكيد أنه عند الحديث عن رفض الاستيطان، لا أحد يرفع صوته إذا ما أقيمت مشروعات وتجمعات سكنية جديدة فوق الأراضي المحتلة عام 1948، لأنها في نظر أمريكا وأُجَرائها من الحكّام وأبواقهم "شأن داخلي" يحصل في "دولة مجاورة"! ولا تبرز قضايا "الاستيطان" إلا في المناطق التي خصصتها أمريكا للدولة الفلسطينية الموعودة/الموهومة ضمن رؤيتها السياسية.
إذن، فإن "الاستيطان" - سياسيا - هو مخالفة سياسية وعرقلة ميدانية لمشروع حل الدولتين الأمريكي، ولا يُستحضر في الموقف الدبلوماسي منه موضوع الاغتصاب لأرض فلسطينية من أصحابها: فذلك موقف مبدئي لا يزعج أمريكا ولا أدواتها ولا أبواقها، إذ كيف يزعجها أو يقلقها وهي التي شرعنت الاغتصاب في مناطق 1948 بلا رجعة، وهي تحمي أمن الاحتلال في كل فلسطين.
ولذلك فإن ما يزعج أمريكا – كلما رفعت من وتيرة تصريحاتها في هذا الموضوع كما حصل خلال الأيام الأخيرة - هو العرقلة السياسية التي يجسّدها الاستيطان في سعيها لتنفيذ مشروع حل الدولتين، وذلك أن حل الدولتين يقوم على فكرة إيجاد كيانين منفصلين جغرافياً وعرقياً، بينما يُسهم الاستيطان في "الاندماج" الجغرافي، عبر تكثيف الوجود اليهودي في الأراضي المحتلة عام 1967، مما يمنع أو يعيق عملية الفصل في كيانين سياسيين. ومن هذه الزاوية، فإن مشاريع الاستيطان تنسجم مع العقلية الليكودية الرافضة لأي تنازل سيادي عن أي جزء من أرض فلسطين، ولأي شكل لكيان فلسطيني يحمل معاني الدولة ولو على الورق، وهي لا تقبل بأكثر من الحكم الذاتي-الإداري تحت سيادةكيان يهود، مع تسخيره كمشروع أمني.
ومن السذاجة بمكان أن يخطر ببال أحد أن أمريكا تنزعج من اغتصاب الأرض الفلسطينية للاستيطان، أو أنها تقف ضد العدوان على السلطان على الأرض، أو أنها تندفع بمفهوم العدالة مع أهل الأرض، فهذه النوايا الأمريكية مكشوفة مفضوحة، ولا يمكن أن تنجح أمريكا في ذر الرماد في أعين المسلمين عبر دغدغة المشاعر في بعض التصريحات ضد الاستيطان.
وإن الوعي السياسي يفرض استحضار هذه الثوابت عند محاولة فهم الانتقاد القوي الذي وجهته أمريكا لدولة يهود، بسبب موافقتها على بناء وحدات استيطانية جديدة على أراض فلسطينية محتلة، وما تضمن من تحذير لحليفتها من أنها تعرض آفاق السلام للخطر.
وقد جاءت هذه التصريحات ضمن أجواء المناكفات السياسية التي يحركها نتنياهو ضد الديمقراطيين في الإدارة الأمريكية، وهي مشاكسات سياسية "مزمنة" بين نتنياهو والإدارة الأمريكية (الديمقراطية) منذ مرحلة رئاسته الأولى، وقد ظل الاستيطان فيها أحد شرر التشاكس الليكودي ضد الدفع الأمريكي نحو حل الدولتين.
إذ من المعلوم أن نتنياهو يستغل موضوع الاستيطان كوسيلة للهروب للأمام أمام أي ضغط خارجي من قبل الإدارة الأمريكية، وللتملص من التجاوب مع أي حراك دولي: روسي أو فرنسي أو أوروبي. كما فعل نتنياهو عند تشكيله حكومته المتطرفة بالشراكة مع ليبرمان مطلع العام 2009، حيث كثف النشاطات الاستيطانية في الضفة الغربية، وتهرب من كل محاولة أمريكية لدفعه نحو الانخراط الجاد في العملية السلمية. وعندها تورط عباس - بتوجيه أمريكي - في ادعاء البطولة السياسية، وشرط العودة للمفاوضات بوقف نشاطات الاستيطان. وبعدما ورطت أمريكا عباس في صعود تلك الشجرة تعذّر نزوله عنها بسلاسة، فأسقطته أمريكا عنها في لقاء شكلي مع نتنياهو في واشنطن (في 25/9/2009)، لم يمتخض عنه شيء. رغم أن عباس قد انصاع حينها للإملاءات الأمريكية بشكل مذل، كما شارك - أخيرا - في جنازة مجرم الحرب شمعون بيريز في شكل أكثر إذلالا وتحدياً لمشاعر أهل فلسطين والمسلمين، في محاولة لتحريك الماء السياسي الراكد، وعبّر عباس عن فرحته باللقاء خلال الجنازة عندما خاطب سارة زوجة نتنياهو بالقول: مرّ زمن طويل...
ومن الواضح للمتابع أن هذه الانتقادات الأمريكية الجديدة جاءت بُعيد توقيع اتفاقية حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية الجديدة لكيانيهود، والتي وصفت بأنها الأكبر من نوعها، لتؤكد أن تلك الاتفاقية العسكرية لم تُزِل حالة الاحتقان السياسي بين الطرفين، ولم تؤد إلى انفراجة دبلوماسية، وإنما هي تجديد وتأكيد للعلاقة الاستراتيجية الأمنية بين الطرفين.
إضافة لتلك الأبعاد الخارجية، فإن نتنياهو يستغل موضوع الاستيطان كلاصق سريع، من أجل تعزيز لحمته مع القوى اليهودية المتطرفة، وذلك عند كل مأزق داخلي (مع اليمين اليهودي)، كما فعل من قبل حين هدده حلفاؤه من الجناح اليميني بالانسحاب من الحكومة، عندما وافق على عقد لقاء ياسر عرفات (عام 1996)، فتوجّه نحو مشاريع الاستيطان لاستغلال شهيتهم، ثم تابع المحادثات مع عرفات ضمن حراك كاذب، وقد جاء توقيت هذه المشاريع الجديدة بعدما قابل نتنياهو عباس خلال جنازة بيريز، وبعدما تعرض لانتقادات داخلية حول تساهله في صفقة المساعدات الأمريكية الجديدة.
أما من زاوية الرؤية الاستراتيجية الثابتة لدى أمريكا (حل الدولتين)، فإن "الحل السلمي" الذي تريد أمريكا فرضه على اليهود، يدفعها للتصريح بأن "على (إسرائيل) الاختيار بين السلام أو الاستيطان"، وهي الزاوية التي يمكن عبرها فهم بيان وزارة الخارجية الأمريكية، الذي جاء فيه "ندين بشدة قرار الحكومة (الإسرائيلية) الأخير بتنفيذ خطة تقضي ببناء مستوطنة جديدة كبيرة في عمق الضفة الغربية" المحتلة.
وكما أحبط تعنتُ نتياهو الرئيسَ الأمريكي أوباما خلال مرحلة إدارته الأولى، وظلت المسيرة متعثرة طوال سنوات عجاف، ها هو نتنياهو يحبط أوباما من جديد، فتطلق إدارته هذه التصريحات كأنها غضبة مودّع، لأنها ليست ذات قيمة ضمن مرحلة البطة العرجاء التي تعيشها الإدارة الأمريكية وهي تقترب نحو الانتخابات الرئاسية.
وخلاصة الموقف أن هذه التصريحات لا تصلح كوسيلة ذر الرماد في عيون المسلمين، ولا في تحسين صورة السياسة الخارجية الأمريكية، بل هي انعكاس للمناكفات بين أوباما ونتنياهو المتعنت، وهي تعبير مباشر عن الرؤية الأمريكية التي تتعارض مع الاستيطان.
رأيك في الموضوع