سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة سرت منذ أيار/مايو من العام الماضي 2015، وهي المدينة التي كانت تُعتبر المعقل الرئيسي لطاغية ليبيا السابق معمر القذافي، وذلك بعد انسحاب الكتيبة 166 التابعة لقوات (فجر ليبيا) السابقة، والتي انحلّت فيما بعد، وأصبحت الآن جزءاً من قوات حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.
وتقع المدينة في وسط ليبيا تقريباً، بين المنطقة الشرقية التي تتبع لنفوذ الفريق المتقاعد خليفة حفتر رجل أمريكا العسكري المدعوم مباشرةً من نظام السيسي في مصر، وبين المنطقة الغربية لليبيا، والتي هي منطقة نفوذ تابعة لحكومة التوافق برئاسة فايز السراج المدعومة عالمياً من أوروبا، والمدعومة إقليمياً من دولتي تونس والجزائر بشكل مباشر.
أشعلت مدينة سرت سباقاً محموماً بين النفوذين، وكان خليفة حفتر هو السبّاق في الإعلان عن إطلاق ما سُمّي بعملية تحرير سرت، بعد زعمه استكمال تحرير مدينتي بنغازي وأجدابيا شرقي البلاد، إلاّ أنّه لم يقم بأية أعمال جادّة على الأرض ضدّ التنظيم.
ولكن بعد إعلان حفتر هذا اعتبرت حكومة الوفاق التي يرأسها فايز السرّاج، ويدعمها المبعوث الأممي مارتن كوبلر الإعلان غير شرعي باعتبار أنّ: "القيادة العليا للجيش الليبي هي من صلاحيات رئيس المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق برئاسة السراج"، فالتقطت حكومة السراج الكرة من حفتر، وقامت بوصفها تمثل القيادة العليا للجيش من ناحية شرعية - بحسب تقديرها - بالإعلان من جهتها عن بدء تحرير مدينة سرت من أيدي تنظيم الدولة، وأعلنت من فورها عن إنشاء غرفة عمليات مشتركة تتكون أغلب قياداتها من مدينة مصراتة - التي تُعتبرُ الحاضنة الرئيسية لحكومة السرّاج - ومنهم (العميد طيار مفتاح عبجة، والعقيد ركن سالم جحا، والعقيد إبراهيم فلغوش، والعقيد محمد عجاج) وذلك بعد ساعات فقط من إعلان حفتر بدء عمليات قواته تحرير المدينة، أدّى إعلان السرّاج المفاجئ هذا إلى استهجان واستنكار القيادات المحسوبة على حفتر، وذلك على لسان رئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح، والذي وصف تشكيل الغرفة العسكرية من قبل المجلس الرئاسي وحكومة السرّاج بالتعديات الجسيمة، وبمخالفة القوانين الليبية، وهدّد بأنّ: "مدينة سرت ومحيطها الجغرافي منطقة عسكرية مغلقة، ويُعتبر أي تشكيل مسلح موجود فيها لا يتبع لقيادة حفتر بأنّه تشكيلٌ خارجٌ عن القانون".
لكنّ المفاجأة أربكت جماعة حفتر وباتوا عاجزين عن فعل شيء، ولم يملكوا القيام بأي ردّة فعل على الأرض، واكتفوا بالشجب والاستنكار.
كان ظنّ خليفة حفتر المدعوم من قبل عملاء أمريكا في غير محلّه بأنّ جماعة السرّاج لن يُقدموا على دخول سرت، وكان ينوي هو إدخال قواته إليها، والتغلّب على تنظيم الدولة، ومن ثمّ يتم تتويجه بطلاً شعبياً، وقائداً لا يُشقّ له غبار بعد الاستيلاء على المدينة، وإخراج تنظيم الدولة منها، وهو ما قد يؤهله فيما بعد للسيطرة على كامل الأراضي الليبية، ولكنّ فايز السرّاج كان أذكى منه فسبقه في ذلك، وأدرك لعبة حفتر، وفهم مغزى وأهمية السيطرة على المدينة، فدخل معه في لعبة سباق مستميت للسيطرة عليها، وإعلان قصب السبق بالقضاء على تنظيم الدولة فيها، ومحاربة (الإرهاب) في ليبيا، وذلك لنيل الحظوة عند سيدهم (المجتمع الدولي) الذي لا همّ له في هذه الأيام إلا محاربة الإسلام والمسلمين تحت شعار محاربة الإرهاب والتطرف.
وبسرعة البرق قام السرّاج - بإسنادٍ أوروبي - بتجهيز القوات بسرعة خاطفة، وأخذ تكليفاً من المجلس الرئاسي المسؤول عن الحكومة التوافقية، وجمّع أغلب القوات من مدينة مصراتة بالأساس، وبالتعاون مع بعض المليشيات من مدن أخرى في الغرب الليبي مثل زليتن وجنزور، وشرع في محاربة تنظيم الدولة، ومحاولة طرده من سرت، وتمّ إطلاق اسم (البنيان المرصوص) على العملية، بينما أسقط بيد خليفة حفتر، ولم يفعل شيئاً سوى الإعلان، وبقي يلعب دور المتفرج في وقت كان عليه الإمساك بزمام الأمور.
واشتبكت قوات السرّاج بالفعل مع قوات التنظيم، وخاضت معها حرب شوارع، وحقّقت تقدماً ملحوظاً، وتوغلت في المدينة، وسيطرت على المطار، وكانت قبل ذلك وبسرعة خاطفة قد سيطرت على بلدتي النوفلية وبن جواد، وتقدمت على نحوٍ مفاجئ باتجاه منطقة هراوة القريبة من سرت.
وفي خضم الأحداث المتسارعة ألقى السرّاج خطاباً قال فيه: "إن الحكومة قرّرت بداية اتصالاتها بتنسيق مع جميع القيادات العسكرية بالتراب الليبي لوضع الترتيبات اللازمة لمباشرة عملية تحرير سرت"، معتبرًا أنه قد "آن الآوان لاجتثات داعش من كل أنحاء البلاد"، وأن الحرب القادمة ستكون "باسم ليبيا والولاء للوطن فقط"، في إشارة إلى مسؤوليته عن كل القطعات العسكرية الليبية بما فيها تلك التي يُسيطر عليها حفتر.
إنّ مُجريات الأحداث في ليبيا تميل لصالح كفّة السرّاج على حساب حفتر، فمحور الأحداث الرئيسية أصبح السرّاج هو بطلها، ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر والذي كان يُغازل حفتر في السابق، ويُراعي المصالح الأمريكية بدرجة أكبر، انقلب عليه، ومال أكثر نحو المصالح الأوروبية فقال: "إن المأزق السياسي في الشرق الليبي مرتبط بعدم منح برلمان طبرق الثقة لحكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، وإنّ أقلية تمنع الأغلبية من المصادقة على التشكيلة الوزارية التي طرحها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج"، وتحدّث عن افتعال جماعة حفتر لمواقف وأحداث تمنع التصويت في البرلمان، كقطع الكهرباء وتخويف البرلمانيين، وقال بأنّه طلب لقاء خليفة حفتر لمعرفة مطالبه قبل الاعتراف بحكومة الوفاق، ولكن الأخير رفض بحجة ضيق الوقت، وكان مجلس النواب الخاضع لحفتر في طبرق قد أخفق في الانعقاد بالنصاب الكامل خلال الفترة الماضية - عشر مرات - بسبب عرقلة حفتر لعمله، وفشل في عقد أي جلسة قانونية لمنح الثقة لحكومة الوفاق بحجة عدم اكتمال النصاب القانوني.
وأمّا مواقف الدول المهمّة التي لها تأثير في ليبيا فنرى أنّ بريطانيا مثلاً تدعم بكل قوّتها حكومة السرّاج، فهي التي دبّرت ترتيب اتفاق الصخيرات في 17/12/2015، واستصدرت قراراً دولياً باعتماده، وجمعت سفارتها في تونس الأموال لدعم ما نتج عنه من مجلس رئاسي أعلى للدولة، وما أفرزه من حكومة (توافقية) تنفيذية برئاسة السراج، وحلّت حكومة المؤتمر السابق، ودمجتها في حكومة السرّاج، وأشركت معها إيطاليا والاتحاد الأوروبي لدعم كل ما تمخّض عن اتفاق الصخيرات من قرارات، وأكّد السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت أكثر من مرّة على دعم بلاده للسرّاج فقال إن بلاده: "تدعم المؤسسات التي نتجت عن الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات، وهي المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق ومجلس النواب"، وأضاف: "إنّ بريطانيا لا ترفض الشرق الليبي وتراه جزءا أساسيا من ليبيا"، ووقفت إيطاليا بقوةٍ إلى جانب بريطانيا في دعمها لحكومة السرّاج، وتعاملت مع المشكلة بوصفها الدولة المستعمرة السابقة لليبيا، وبوصفها من أكبر الدول المستثمرة فيها، فقال وزير خارجيتها جنتيلوني أمام البرلمان الإيطالي: "لنكن واضحين، لترسيخ حكومة فايز السراج من الضروري أن يتمكن من التحرك للتصدي للإرهاب"، وأضاف: "يجب تعديل الحظر للسماح باتخاذ تدابير لمكافحة الإرهاب، فعلينا القيام بذلك لمصلحة الحكومة الشرعية"، موضحاً أنّ: "على حكومة الوفاق أن تستفيد أيضاً من الموارد النفطية".
وأمّا دول الجوار الإقليمية وخاصّةً تونس والجزائر فقد وقفت بكل قواها إلى جانب حكومة السرّاج، فتونس كانت الحاضنة التي تأسّست فيها الحكومة، وانطلقت منها نحو ليبيا، وأمّا الجزائر فلا تعترف أصلاً بأي حكومة سواها، وتعتبرها هي الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا، قال الوزير الجزائري للشؤون المغاربية عبد القادر مساهل: "إن بلاده مع الحل السياسي في ليبيا منذ اليوم الأول للأزمة، مؤكدا رفض عسكرة الأزمة"، مضيفا: "أن الجزائر تدعم اتفاق الصخيرات المغربية، الذي أفضى إلى حكومة الوفاق"، وقال: "إن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة السراج أصبح الممثل الوحيد والشرعي للشعب الليبي، ونحن مع طرابلس عاصمة الدولة الموحدة وهي كذلك اليوم، وموقفنا واضح، ونأمل في أن يقوم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بترتيب الأوضاع في ليبيا".
وهكذا يبدو أنّ ورقة سرت على الأغلب ستكون هي الورقة التي ستحسم الصراع في ليبيا لصالح حكومة السرّاج وداعميها الأوروبيين، وبالذات بريطانيا وإيطاليا، وإذا ما تمّ تخليص مدينة سرت من أيدي تنظيم الدولة، وهو أمرٌ وارد، فسيُعتبرُ ذلك انتصاراً معنوياً وسياسياً كبيراً لها، خاصة وأن الدعم الدولي الظاهري يرتكز في جزءٍ كبيرٍ منه على رغبة القوى الغربية الكبرى في اعتماد شريك ليبي قوي ينجح في اختبار سرت هذا، والذي إنْ حصلت عليه حكومة السرّاج فسيليه - على الأغلب - بسط الحكومة لنفوذها على رقعة كبيرة من الأراضي الليبية، بدءاً من منطقة الهلال النفطي الغنية (خليج السدرة) وانتهاءً بالمنطقة الغربية التي يُسيطر عليها حفتر، وسيتمخّض عن هذا الاختبار وبشكلٍ مؤكد قطع الطريق أمام تمدّد قوات حفتر، وقد يترتب على ذلك لاحقاً سقوط أسطورة حفتر التي روّجتها له وسائل الإعلام المدفوعة أمريكياً بوصفه الشخص الوحيد القادر على مواجهات ما يصفونها بـ (المليشيات الارهابية الإسلامية والتنظيمات المتطرفة).
وفي الوقت الذي تنضم فيه القوى السياسية والمليشيات المتفرّقة في غرب ليبيا إلى حكومة السرّاج، نجد أنّ الانقسامات بدأت تغلب على حكومة حفتر في المنطقة الشرقية، ونجد أنّ بعض الكتائب التابعة لحفتر أعلنت انضمامها إلى حكومة السرّاج، بل وأصبحت تتعالى بعض الأصوات المحسوبة على حفتر للانضمام إلى حكومة السرّاج، وذلك بعد أنْ كانت حكومة السرّاج تشقّ طريقها بصعوبة باحثةً عن داعمين لها في منطقة نفوذ حفتر، وبعد أنْ أعياها العجز لمدة طويلة عن إحداث أية اختراقات كبيرة فيها.
لقد استُخدم تنظيم الدولة في الأساس من قبل أمريكا وعميلها حفتر لتبرير قيادته للجيش باعتباره الزعيم العسكري الجدير بمهمة قيادة البلاد، ولتخليصها من (تنظيم الدولة والإرهاب)، وبوصفه القادر على محاربة التنظيم، وكانت قد ظهرت في السابق بعض المؤشرات على حدوث نوع من تغاضي قوات حفتر عن توسع التنظيم في منطقة سرت، وبدا التلكؤ وعدم الجدية واضحين لدى تلك القوات بمقاتلته، وكان السلاح يتدفق إلى خليج (الخبطة) بمنطقة (الفتايح) التي تتمركز فيها قوات التنظيم، وينتقل منها إلى سرت، بينما لم تقم قوات حفتر بمنع وصول السلاح إليها رغم قدرتها على ذلك، فلم تقم بقصف تمركزات التنظيم بمدينة درنة وهي معسكرات مكشوفة يسهل استهدافها بالطيران، وبدلاً من ذلك كانت قوات حفتر تقصف المجموعات التي كانت تحارب تنظيم الدولة، فيما تسمح بمرور العناصر التابعة للتنظيم، وتنقل أفراده ومعداته بحرية وسهولة في المناطق المختلفة التي تنقّل فيها، بالرغم من أنّها كانت مكشوفة لمسافة أكثر من 800 كم، وذلك وفقاً لما ذكره بعض المراقبين.
فأمريكا وحفتر مكّنا تنظيم الدولة من السيطرة على مدينة سرت وبعض المناطق لاتخاذ ذلك ذريعة لفرض سيسي جديد في ليبيا بدعوى وجود تنظيم الدولة الذي لا يملك أحد إلحاق الهزيمة به إلاّ رجل عسكري صاحب خبرة كحفتر، لكنّ حفتر لم يُحسن التعامل مع المستجدات السياسية، وغلب عليه الجمود السياسي، ولم يُطوّر خطابه السياسي بما يتناسب مع تطور الأحداث، وتأخّر في الهجوم على مدينة سرت، ومن ناحيةٍ سياسية ظلّ يُردّد نفس المطالب والشروط غير المقنعة، وأهمها أنّ قواته لا يمكن لها على الإطلاق أن تنضم إلى حكومة الوفاق الوطني برئاسة السرّاج المدعومة من الأمم المتحدة بحجة وجود مليشيات فيها، ودعا باستمرار إلى حل جميع (المليشيات) المتحالفة مع الحكومة، واعتمد فقط على دعم الموقف المصري المباشر لقواته، وهو ما جعل الداعين له يبتعدون عنه، ومنهم مارتن كوبلر المبعوث الأممي الخاص لليبيا الذي شدّد على أن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج هو القائد الأعلى للجيش الليبي، ودعا جميع الفرقاء بما فيهم جماعة حفتر للاتفاق على ذلك.
وبلغ الأمر بكوبلر أنّه وصف - في حوارٍ له مع جريدة (دو ديمانش) الفرنسية - الجيش الذي يقوده خليفة حفتر بأنّه مجرّد: "قوات نظامية تضم عناصر موالية للقذافي ومرتزقة من السودان وتشاد، ومن بعض القوى القبلية"، واعتبر أن ذلك لا يكفي لهزيمة تنظيم الدولة، لكنّه ومع ذلك راعى وضعه السياسي، وأكّد على الدور المهم الذي على حفتر أنْ يلعبه في إعادة بناء الجيش الليبي.
لقد استُغّلّ وجود تنظيم الدولة أسوأ استغلال في ليبيا، فمُكّن من السيطرة على بعض المناطق لتبرير أخذه قيادة الجيش والدولة في ليبيا، ولعبت أمريكا وأوروبا على نفس الوتر، وتسابق عملاؤهما في محاربته، والانتصار عليه، من أجل إثبات أحقّيتهما في قيادة البلاد، وكانت دماءُ الليبيين تُهراق من أجل تحقيق هذه الأهداف الخبيثة، ومن أجل تمكين عملاء القوى الاستعمارية الكبرى من السيطرة على مُقدّرات البلاد.
إنّ المعارك التي تدور رحاها الآن في مدينة سرت ضد تنظيم الدولة ربّما ستكون في المستقبل القريب حاسمةً في الصراع الدولي المحتدم على ليبيا بين أمريكا وأوروبا، ولعلّها ستُحدّد مِنَ العملاء مَنْ هو المؤهل لقيادة ليبيا في المستقبل، ومن يصلح أكثر لخدمة المشروع الاستعماري الغربي.
رأيك في الموضوع