إننا لا نبالغ إذا قلنا إنه لا يوجد مجموعة بشرية أو مذهب فكري أو سياسي تغنى وردد كلمات من نوع حقوق الإنسان والشعوب بالحياة والحرية وتقرير المصير والكرامة مثل النظام الغربي العلماني الرأسمالي، لذلك سنت في ذلك القوانين والتشريعات وألفت الكتب وأخرجت المسرحيات والأفلام وعقدت المؤتمرات، وأنشئت المنظمات والهيئات التي تعنى بهذا مثل حقوق الطفل والمرأة والأسرى وحماية المدنين...
ولكن أيضاً لا نبالغ إذا قلنا إنه لم يعرف التاريخ انتهاكا للكرامة البشرية واستغلالا لها وسفكا لدمائها ونهبا لجهودها واستعبادا لها مثل الفترة التي ساد العالم فيها النظام الغربي العلماني الرأسمالي ودوله، إذ في هذه الأزمنة نشأ الاستعمار والحروب العالمية ونهب الثروات وحروب الإبادة العنصرية كما حصل لمناطق في أفريقيا وللهنود الحمر في أمريكا... وعادة ما يحصل كل هذا تحت العناوين والشعارات ذاتها، حتى إن الاستعمار تغطى بذرائع مثل الانتداب والوصاية التي كانت حسب عصبة الأمم المتحدة وقتها تعني مساعدة الدول المتأخرة للحاق بالدول المتقدمة، بل إن كلمة الاستعمار ذات الوقع البشع هي نفسها أتت لغويا من التعمير والإعمار...
نذكر ما سبق كتوطئة لتوضيح وكشف بعض القضايا المتعلقة بمؤتمر لندن 4/2/2016 للمانحين لمساعدة سوريا، وهو المؤتمر الرابع المتعلق بسوريا، الذي وصف أهدافه ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمم المتحدة في سياق التحضير له: "الهدف من المؤتمر هو جمع تمويل جديد كبير للوفاء باحتياجات المتضررين من الأزمة السورية داخل سوريا ودعم الدول المجاورة التي أظهرت سخاء هائلا في استضافة اللاجئين، كي تتمكن من مواكبة آثار الأزمة. ويعتزم المؤتمر أيضا تحديد حلول تمويلية طويلة الأمد ومعالجة الاحتياجات على المدى الأبعد للمتأثرين بالأزمة".
وأمام هذا لا بد أن نوضح الحقائق التالية:
١- إن ما يحصل ليس سببه كارثة طبيعية كإعصار أو زلزال لا تملك هذه الدول وقفه، وإنما هو حاكم ظالم يقصف شعبه بالكيماوي والطائرات والصواريخ والبراميل المتفجرة، حاكم طاغية تبين أنه لا يعصي أمرا لأمريكا والقوى الكبرى، وعندما أُمر بتسليم الكيماوي سلمه دون أي تردد، بل فعل ذلك قبل انتهاء الأجل المحدد، وكذا يومَ أُمر بالانسحاب من لبنان فقد خرج بعد أكثر من ثلاثين سنة لا يلوي على شيء بعد أن صدر الأمر الجاد، فلماذا هذه الدول لم تصدر له الأمر بالتوقف عن قتل شعبه فتتوقف كل هذه المأساة؟!
٢- تتمة لما سبق، لقد ثبت وبالدليل القاطع أن أمريكا ذاتها والغرب عموما سبب كبير في دعم الأسد وتقويته ضد شعبه، قال تشاك هيغل وزير الدفاع في معرض إقالته أو استقالته أن ضربات التحالف الدولي على "الإرهاب" ربما تساعد الأسد، بل إن روبرت فورد سفير أمريكا السابق في دمشق قال أصبحنا نتصرف وكأننا جزء من القوى الجوية للأسد، هذا الكلام ذكر في خريف ٢٠١٤، أما الآن ومع التصريحات العلنية للدول الغربية في سياق جنيف٣ فقد أصبح واضحا دور أمريكا والغرب في معاناة الناس وتشريدهم وحاجتهم.
٣- إن المدعوين للمؤتمر هما روسيا وإيران، وكلاهما قاتلان مباشران يشاركان الأسد جريمته وقصفه لأهل سوريا، حتى إنه مع فترة مسرحية جنيف٣ تم تشريد أكثر من عشرين ألفا من أهل سوريا حيث هربوا من القصف الروسي الوحشي باتجاه تركيا التي أغلقت في وجههم الأبواب وباتوا عالقين في العراء في هذا الشتاء الماطر.
٤- إن الأموال والمساعدات التي تجمع هي مسيسة بشكل لا لبس فيه، كشفت نيويورك تايمز في صيف ٢٠١٤: "85% من المساعدات الأممية ذهبت إلى موالين للأسد"، ونقلت "نيويورك تايمز" عن "جون جينج" الذي يدير العمليات الميدانية في جميع أنحاء العالم لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، أن نظام بشار الأسد هددهم بالطرد من الأجزاء التي يسيطر عليها من سوريا إن عبروا بقوافل المساعدات من الحدود دون أخذ موافقة النظام.
أي أن الأموال استخدمت لشراء موالين جدد، ورشوة لهم، مع استمرار الحصار على مناطق الثائرين على الأسد، وهذا بعلم الأمم المتحدة.
٥- كشفت الهدن التي تحصل مع النظام بسبب جوع الناس وموت بعضهم، أن الأمم المتحدة على علم بها، بل وشريكة أيضا كما كشفت الفورين بوليسي، كما نقلت الجزيرة: "قالت مجلة فورين بوليسي أن الأمم المتحدة كانت تعلم منذ أشهر بالمجاعة في مضايا السورية المحاصرة من قبل النظام، ولكنها لم تحرك ساكنا، وقد اتهم ناشطون سوريون المنظمة الدولية بالتآمر مع النظام".
أيضا كانت الأمم المتحدة ترعى هذه الهدن في شرعنة ضمنية لجرائم الأسد وتجويعه الناس وحصارهم، وأثبتت الوقائع أن الأسد ونظامه لم يستجب لفك الحصار عن الأهالي بعد انسحاب من يحمل السلاح حسب الاتفاق، ومع ذلك لم تفعل الأمم المتحدة شيئا ذا بال.
٦- إن القليل من المساعدات الغربية التي تصل للمناطق الثائرة، إنما تصل بانتقائية وشروط لتحقيق أهداف هذه الدول ومحاولة للدعاية لها ولمشاريعها.
7- إن سياسات وقوانين مكافحة الإرهاب التي وصمت الثورة السورية أجبرت مساعدات الجمعيات الخيرية الأهلية على التوقف خوفا من أن تتهم بأنها تدعم الإرهاب إذ أصبحت هذه الجمعيات عرضة للمضايقات والتحقيقات وحتى المحاكمات.
إن تزامن موتمر لندن مع جنيف٣ يكشف أن هذه الدول لا تريد حلا لما يحصل في سوريا، بل يعملون على إدارتها بحيث تحقق مصالحهم ومشاريعهم، وبالتالي هم شركاء في هذه الجريمة، وليسوا من عناصر حلها البتة.
بقلم: الدكتور يوسف حج يوسف
رأيك في الموضوع