إن المشكلة الكبرى في ليبيا تكمن في قبول التدخل الأجنبي، والذي كان وبالا وكارثة عليها، ولذلك وقع البلد تحت تأثير القوى الكبرى المتصارعة وأدواتها الإقليمية، فيُستعان بهذه القوى لحل مشاكل ليبيا. فكيف يستعان بها وهي سبب المشاكل، وقد وقفت وراء نظام القذافي، وتدخلت لمنع تحرر البلد من ربقة استعمارها وعودة السلطان إلى أهلها ليحكموها بالإسلام، فمنعت الناس من قطف ثمار الثورة؟
لقد ابتلي البلد بحفنة من العملاء الرخيصين الذين يسارعون في الذين كفروا ليحققوا مآربهم الضيقة، فيقبلون بالسير مع هذه القوة أو مع تلك، وكان ذلك من مخلّفات الفترة الاستعمارية المباشرة من قبل بريطانيا ومن ثم غير المباشرة عن طريق عميلها القذافي حيث سيطر العملاء التابعون لها على الوسط السياسي، وحاربت كل سياسي مخلص وبطشت به عن طريق عميلها الهالك. وقد حاولت أمريكا أن تأخذ البلد منها، ولكنها لم تمكنها وتقوّت بأوروبا وعملائها في البلد والبلدان المجاورة والخليج في وجه أمريكا. ولذلك أصبح الصراع يدور بين بريطانيا ومن معها وبين أمريكا ومعها عملاؤها في المنطقة وعلى رأسهم النظام المصري.
فأهل البلد يريدون الخلاص الحقيقي ولكن الوعي لم يكتمل لديهم كما يبدو، فيقعون في شرك المتآمرين عليهم من تلك القوى وعملائهم، فقامت هذه القوى تفرض عليهم حلولا لتمنعهم من الخروج من قبضتها. فجاءت بخطة ليون مبعوث الأمم المتحدة لتفرض عليهم حلا غربيا توج بالاتفاق بالأحرف الأولى في الصخيرات بالمغرب يوم 11/7/2015، وخلفه كوبلر ليبدأ من حيث انتهى سلفه، وقد أعلن قائلا "هناك توافق على ضرورة التوقيع بصورة عاجلة على الاتفاق، حيثإن الأطراف قبلت بالتوقيع النهائي يوم 16/12/2015".
وجاء هذا الإعلان بعدما أجرى وفدا المؤتمر العام ومجلس النواب مفاوضات سرية في تونس، فأعلنا يوم 6/12/2015 عن "وثيقة مبادئ اتفاق وطني لحل الأزمة الليبية تتضمن العودة لدستور 1951 الذي وضعته بريطانيا وتهيئة المناخ لانتخابات تشريعية وتشكيل حكومة وفاق وطني وتشكيل لجنة من 10 أعضاء برلمانيين 5 من كل طرف للمساعدة في اختيار رئيس حكومة وفاق وطني ونائبين له من الطرفين". فالوسط السياسي يسيطر عليه عملاء الإنجليز وهم يسيطرون على المؤتمر في طرابلس. ولكن عميل أمريكا حفتر يسيطر على مجلس النواب في طبرق والحكومة فيها، ولا يعبأ بها فيتصرف كيفما تملي عليه أمريكا حيث عمل على عرقلة التوصل إلى حل.
وأرادت أمريكا هذه المرة عرقلة الحل ببدء المفاوضات من جديد، فأعلنت على لسان وزير خارجيتها كيري أثناء زيارته لتونس يوم 13/11/2015 أنها ستدعو إلى مؤتمر دولي حول ليبيا، فكأن الاتفاقات التي حققها المبعوث الدولي لا تعنيها ولا تريد توقيع الاتفاق النهائي، وتريد أن تبدأ من الصفر لإحباط ذلك، فأعلن كيري أن هذا المؤتمر سيكون في روما ليسبق التوقيع النهائي، وبالفعل عقد يوم 13/12/2015، وقد أرادت أن تروج له ليكون على غرار مؤتمر فينّا المتعلق بسوريا، ولكن لم يظهر مثل ذلك فكان باهتا، ولم يحقق أهدافه.
ولهذا فإنه يظهر أن الإنجليز أرادوا الاستعجال في حسم الأمر بتوقيع الحل النهائي، فجمعوا عملاءهم سرا في تونس حيث النظام فيها موالٍ لهم وأعلنوا عن وثيقة مبادئ ومن ثم الاستعداد للتوقيع النهائي. ولقد اجتمعوا مرة ثانية في تونس
يومي 11-12/12/2015 وتعهدوا بتوقيع الاتفاق النهائي يوم 16/12/2015. وكاد أن يتعرقل التوقيع بألاعيب أمريكية، فتأخر يوما حتى وقع في اليوم التالي بالصخيرات بالمغرب بضغط من المغرب ومن ورائها بريطانيا، حتى اضطرت أمريكا إلى أن تعلن نفاقا على لسان المتحدث باسم خارجيتها كيربي عن "امتنانها للمملكة المغربية على جهودها للدفع بالمسلسل الأممي لتسوية الأزمة في ليبيا". وذلك بعدما تم التوقيع، ولم تستطع أن تعرقله.
ولقد عقدت خمس دول عربية يوم 9/12/2015 اجتماعا في الجزائر وهي مصر وتونس وقطر والإمارات والجزائر للتباحث حول الوضع في ليبيا، فقال مصدر دبلوماسي جزائري "إن اللقاء جاء للتباحث حول طريقة لتسوية المشكلات التي نتجت عن اتفاق تونس الذي رفضته بعض الدول ومنها مصر". مما يدل على أن أمريكا ليست راضية عن اتفاق تونس الذي وقع فيه وفدا المؤتمر الوطني ومجلس النواب وثيقة المبادئ، فرفضته عن طريق عميلها النظام المصري وأرادت عرقلة توقيع الاتفاق النهائي.
ويؤكد ذلك ما نقلته شبكة إرم الإخبارية عن مصادر قالت: "إن كيري توصل مع الأطراف المعنية على عقد مؤتمر دولي حول ليبيا في روما... بحضور ممثلين عن الأطراف الليبية المنخرطة في الحوار إضافة إلى دول الجوار والمبعوث الدولي كوبلر والأطراف المؤثرة والمتأثرة بالأزمة في ليبيا، وإن خطة كيري تتمثل في إلغاء مخرجات حوار الصخيرات التي توصل إليها المبعوث الأممي السابق ليون، وإضافة بعض التعديلات على مقترح حكومة الوفاق برئاسة السراج مع الإطاحة بحكومة عبد الله الثني كاملة". وأشارت هذه المصادر إلى "محاولات في الداخل الليبي من أجل نسف مؤتمر روما المرتقب وإجهاض خطة كيري خاصة أن الأخير يرفض مقترحات الجنوب التي توافق عليها عدد كبير من الأطراف الليبية ما يمكن أن تمثل انفراجة في طريق التوافق على مخرجات حوار الصخيرات".
بالإضافة إلى ذلك فإن أمريكا بدأت تتدخل في ليبيا عسكريا من دون صدور قرار من مجلس الأمن بعدما عرقلت بريطانيا صدوره، وذلك بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا يشبه تدخلها في سوريا بهذه الذريعة دون صدور قرار دولي. فأعلنت وزارة دفاعها بأن الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت "أبو نبيل" هي الأولى ضد قائد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا حيث قامت بتنفيذها يوم 13/11/2015. وقد أعلن مسؤول أمريكي في البنتاغون يوم 18/12/2015 أن فرقة كوماندوز أمريكية وصلت يوم 14/12/2015 إلى قاعدة "الوطية" جنوب طرابلس التي تسيطر عليها قوات حفتر ومن ثم خرجت. أي أن أمريكا تريد خلط الأوراق وعرقلة تنفيذ الاتفاق بالقيام بالتدخل العسكري مباشرة. ولهذا السبب استعدت بريطانيا وفرنسا للقيام بالتدخل العسكري في مواجهة أمريكا بذريعة محاربة الإرهاب، فنشرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية يوم 12/12/2015 تقريرا يستند إلى مصادر في وزارتي الدفاع والخارجية حول "استعدادات بريطانية بالتعاون مع حلفاء أوروبيين للتدخل العسكري في ليبيا لمواجهة زيادة خطر الجماعات الإرهابية، وأن التدخل العسكري قد يبدأ بإرسال دعم عسكري ومعدات إلى ليبيا لكنه ينتظر حكومة وحدة وطنية وشاملة في البلاد". وقد أكد رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس يوم 11/12/2015 على "وجوب محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق وغدا على الأرجح في ليبيا". حيث قام الطيران الفرنسي الشهر الماضي بطلعات استكشافية. فإذا واصلت أمريكا عملياتها العسكرية في ليبيا فإن بريطانيا وفرنسا ستقومان بالمثل حيث أعلنتا استعدادهما للتدخل العسكري، وذلك لمنع أمريكا من أخذ ليبيا من أوروبا.
فبريطانيا ومعها أوروبا أرادت توقيع الاتفاق النهائي بصورة مستعجلة وتشكيل حكومة يهيمن عليها عملاؤها لتحافظ على نفوذها في البلد وتحول دون أن تبسط أمريكا نفوذها فيه، وقد عملت أمريكا على عرقلة الاتفاق بواسطة حفتر، والآن بدأت تعمل مباشرة لعرقلته بالتدخل العسكري بذريعة محاربة تنظيم الدولة، وحاولت عرقلته بعقد مؤتمر روما متجاهلة ما تم التوصل إليه من اتفاق بالأحرف الأولى ومن ثم لعرقلة التوقيع النهائي، حتى تمكنت بريطانيا من توقيعه.
ولا يعني هذا التوقيع أن الأمور قد سويت، بل ستستمر أمريكا في القيام بأعمال مختلفة كي تتمكن من بسط نفوذها في البلد، ويعني ذلك استمرار الصراع بين القوى الاستعمارية على هذا البلد الإسلامي، لأن أوروبا لن تستسلم وستقاوم لتحافظ على نفوذها في ليبيا، وستكون الأطراف المحلية صرعى غفلة في سبيل القوى الاستعمارية المتصارعة.
ولهذا فلا خلاص لأهل ليبيا إلا برفض التدخل الأجنبي بكل أشكاله ورفض حلوله ودساتيره التي تركز حكم الكفر ونفوذه، وقطع العلاقة مع الأنظمة العميلة في المنطقة، والعمل على إسقاط العملاء الذين يصوغون هذا التدخل، وتطبيق الحلول الإسلامية فقط، والتي تدعو إلى الاعتصام بحبل الله ورفض الفرقة والانقسام، وتدعو إلى إقامة حكم الله، ويتمثل ذلك عمليا بالقبول بالدستور الإسلامي الذي صاغه رائد الأمة حزب التحرير واتباع قيادته السياسية المخلصة لإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع