لروسيا مصالح استراتيجية واقتصادية كبيرة في سوريا، وما يحفظ لها هذه المصالح هو وجود قواعد ونفوذ محسوس لها فيها، وقاعدتها البحرية الموجودة في طرطوس منذ تأسيسها في العام 1971 تُعتبر بمثابة رئتها التي تتنفس بها عبر البحار الدافئة، وهي موطئ قدمها الوحيد والبالغ الأهمية في البحر المتوسط، ولا يوجد أصلاً لديها أية قواعد بديلة عنها تضمن لها النفاذ إلى المحيط الأطلسي وسائر المحيطات الأخرى، لذلك فهي تريد أن تكون قاعدتها هذه ثابتة ودائمة ومضمونة، ولا تتعرض لخطر الزوال بسبب الثورة وما قد ينتج عنها من سقوط النظام، فهي تريد ضمانات لبقاء وجود ثابت لها على الساحل السوري من خلال هذه القاعدة، لأنّ هذا الوجود بحد ذاته يُمكّنها من لعب دور سياسي مهم ليس في سوريا وحسب، وإنّما في منطقة الشرق الأوسط برمّتها، ومن هذا المنطلق يُمكن فهم سبب زيادة دعمها العسكري للنظام السوري الذي باتت ترى فيه ضمانتها الوحيدة للحفاظ على قاعدتها تلك، وعلى سائر نفوذها في سوريا والمنطقة.
قامت روسيا بعد اندلاع الثورة في سوريا بدعم النظام بكل إمكانياتها فشطبت 80% من ديون الدولة السورية والتي تجاوزت 13 مليار دولار مقابل استمرار بيع السلاح للنظام وتوقيع عقود تسليحية جديدة، ثمّ ما لبثت أن توصلت روسيا إلى قناعة تُفيد بأنّ المعارضة السورية إن وصلت إلى الحكم فستخسر روسيا جميع نفوذها في سوريا، لذلك قامت بوضع ثقلها كله في دعم نظام بشار باعتباره الجهة الوحيدة الإقليمية التي تضمن لها ذلك النفوذ.
واستخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) عدة مرات لمنع إدانة النظام السوري، وكان أهم فيتو استخدمته في 5/12/2011 لإسقاط مشروع قرار يقضي بمعاقبة النظام السوري تقدمت به بريطانيا وألمانيا والبرتغال.
وقدّمت روسيا الذريعة لأمريكا لعدم قيامها بضرب النظام بعد استخدامه السلاح الكيميائي بشكل واضح ضد المدنيين السوريين وذلك من خلال تبني النظام للمبادرة الروسية القاضية بتفكيك ترسانته الكيميائية تحت إشراف الأمم المتحدة.
ثمّ إنّ الكم الهائل من مختلف أنواع السلاح الروسي والذخائر الروسية التي قُدّمت للنظام كانت السبب الرئيس في عدم سقوطه طوال السنوات الأربع والنصف الماضية، وإنّ استعداد روسيا الآن للتدخل البري إن لزم الأمر هدفه الحفاظ على النظام، وحمايته من السقوط، بوصفه الوحيد الضامن للمصالح الروسية في سوريا والمنطقة.
تُدافع روسيا الآن بشراسة عن نظام بشار الأسد لدرجة أن سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي أصبح يوصف بأنّه وزير خارجية للنظام السوري وليس لروسيا، وذلك من شدة دفاعه عن هذا النظام بطريقة تفوق فيها على وزير الخارجية السوري وليد المعلم.
ولقد شاركت روسيا أمريكا في تقديم المبادرات السياسية كجنيف1 وجنيف2 وموسكو1 وموسكو2 من أجل إبقاء النظام في حالة من حالات الشرعية الدولية، بحيث أصبحت القوى الدولية الرئيسية اليوم تقبل بوجود بشار الأسد ونظامه في السلطة في أي حل سياسي مقبل فقد قالت بريطانيا: "إنها قد تقبل ببقاء الأسد في السلطة لفترة انتقالية إذا كان هذا سيساعد في حل الصراع"، وقالت فرنسا: "إنه يجب أن يترك الأسد الحكم في إحدى المراحل وليس حالاً"، وقالت النمسا: "إنه يجب أن يكون للأسد دور في محاربة (داعش)". وقالت إسبانيا: "إن هناك حاجة للتفاوض مع الأسد لإنهاء الحرب"..
لا شك أنّ هناك توافقاً روسياً أمريكياً على رفض إسقاط النظام، بدليل أنّ أمريكا هي التي تُصرّ دوماً على رفض تزويد المعارضة بالأسلحة الثقيلة والنوعية، وهي التي تُصر باستمرار على تحويل وجهة الصراع إلى محاربة ما يُسمى بالإرهاب، وإلى قتال تنظيم الدولة الإسلامية وعدم قتال النظام.
إنّ روسيا تُدرك بلا شك أنّ سوريا منطقة نفوذ غربية وأمريكية وليست منطقة نفوذ تابعة لها، ولا تجرؤ على مثل هذا التدخل السافر في سوريا من دون أخذ ضوء أخضر من أمريكا، وهي تعلم أنّ أمريكا هي التي سمحت لها بالدخول فيها، كما سمحت لها بالدخول في مناطق غيرها، كما أنّها بمقدورها أن تطردها من المنطقة كما طردتها أيام عزّها، وذلك عندما كانت روسيا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، من مصر والعراق وإندونيسيا ومناطق أخرى تابعة للغرب.
لذلك فروسيا اليوم تتوسل إلى أمريكا أن تُشركها معها في معالجة شؤون سوريا، وتتمنى أن تُنسّق معها كل خطواتها، فقد قدّمت روسيا مقترحات لإجراء مناقشات عسكرية مع أمريكا حول سوريا، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جون كيربي: "إنّ واشنطن تدرس المقترح الروسي بشأن إجراء مناقشات عسكرية تكتيكية وعملية بخصوص الأزمة السورية ومحاربة تنظيم داعش"، وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بيتر كوك: "إنّ وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر بحث مع نظيره الروسي سيرغي شويغو في مكالمة هاتفية يوم الجمعة عن الجوانب التي تتداخل فيها وجهات النظر الروسية والأمريكية ونقاط الخلاف"، ودافع كارتر عن الوجود العسكري الروسي في سوريا ووصفه بأنّه: "دفاعي بطبيعته".
وتسعى روسيا لإقناع أمريكا بضرورة ربط المسألة السورية بالمسألة الأوكرانية، بمعنى أن تُقدّم روسيا لأمريكا خدمات في سوريا فتُحارب معها ما يُسمّونه بالإرهاب مقابل أن ترفع أمريكا عنها العقوبات بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم في أوكرانيا، لكن أمريكا ترفض هذا الربط، فقد أكّد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنّ المحادثات مع موسكو بشأن سوريا منفصلة عن الوضع في أوكرانيا وقال: "لا توجد أي صفقة بخصوص سوريا... سوريا أمر آخر غير قابل للمساومة أو المقايضة فيما يتعلق بأوكرانيا"، وأضاف: "إنّ الولايات المتحدة تُريد التوصل إلى خطة دبلوماسية مستقبلية".
وتُحذّر أوروبا على لسان وزير خارجية ألمانيا فرانك فالتر شتاينماير روسيا من اتخاذ مسارات أحادية الجانب في سوريا فيقول: "لا ينبغي نشوء وضع يجعل أي تحرك مشترك للمجتمع الدولي غير ممكن، كما أنّه لا ينبغي لكل واحد أن يتحرك بطريقته الخاصة في سوريا"، وهذا التصريح فيه تحذير مبطن لأمريكا، لأنّ الكل يعرف أنّ أمريكا هي التي تدفع روسيا للوقوف بجانب الأسد، وهي التي تسمح لها بالتحرك المنفرد وعدم التنسيق مع الأوروبيين.
لكنّ الثورة في الشام لن تسمح لروسيا بالتمادي في غيّها ودعم نظام الطاغية بشّار، ولم يعد سراً أنّ روسيا أصبحت تتحرك كدولة استعمارية وتقوم بتنسيق تحركاتها مع أمريكا لضرب إرادة الأمة، وإجهاض مشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في سوريا، وعلى روسيا أن تعلم أنّ تآمرها مع أمريكا ضد الإسلام في سوريا لن يفيدها، وأنّها سوف تندم على دعمها لنظام الطاغية بشّار أشد الندم، وستكون أكبر الخاسرين بعد انتصار الثورة، فلن يبقى لها قاعدة ولا أي وجود في بلاد الشام، وستخرج من سوريا مذمومة مدحورة كما خرجت من أفغانستان.
رأيك في الموضوع