هناك ثلاث غايات سياسية حيوية تبرز في واقع الأمة المعاصر، وهي التحرر من الهيمنة الخارجية، والوحدة السياسية، وتطبيق الإسلام، وهي غايات متصلة ومتداخلة، ويكون تحقيقها نتيجة لتحقيق المشروع الإسلامي المتمثل بالخلافة على منهاج النبوة، وهي التي تجعل المسلمين أمة واحدة، كما أكّدت العديد من النصوص الشرعية، منها ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.
أما تمزيق البلاد الإسلامية وتفريق المسلمين سياسيا وطائفيا وعرقيا فهو المشروع النقيض للخلافة، ولذلك نتج مطلع القرن الماضي عن المشروع الاستعماري الذي نفّذته بريطانيا وفرنسا للقضاء على دولة الخلافة العثمانية، التي مثلت الكيان السياسي الجامع للمسلمين رغم ما عانته من ضعف وسوء في تطبيق الإسلام في آخر عهدها. وتمكن كلّ من سايكس وبيكو من تحديد مساحات الدول العربية على أساس جغرافيا الأقاليم والثروات النفطية.
تمّ ذلك التقسيم تحقيقا للمصالح الاستعمارية الاقتصادية والسياسية، دون أي استحضار لأية مصالح ولو دُنيا لأهل تلك البلاد. ومن ثم تحولت تلك الحدود إلى مشاريع "وطنية" تراق من أجلها الدماء، وتكفن جثث الضحايا بالأعلام التي رسمها سايكس وبيكو. ولذلك فإن مشاريع تمزيق وتقسيم بلاد المسلمين هي النقيض لمشروع الخلافة: قضت عليها سابقا، وتُخطط لمنع عودتها.
ونظرا لأن ميزان القوى الاستعمارية قد تحول عن قوى الاستعمار القديم نحو القوة المتفردة (أمريكا)، فقد تبلورت رؤية أمريكية لإعادة ترسيم الحدود السياسية في المنطقة، بما يلبي مصالحها هي لا مصالح الاستعمار القديم، ولذلك يلاحظ المتابعون تصاعد الحديث في دوائر صنع القرار الأمريكي (السياسية والبحثية) عن تفتيت جديد، من مثل ما عبّر عنه ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، من أن "سايكس بيكو جديدة" في الشرق الأوسط هي الحل الذي سينقذ أمريكا من ورطتها المتفاقمة في العراق وترددها في سوريا، مؤكدا أن الشرق الأوسط القديم يؤول إلى التفكك (صحيفة الوفد في 17/6/2014).
وتضافرت الدراسات والتقارير الصحفية التي تبين تلك الرؤية الأمريكية، وتعرض تلك الخرائط الجديدة، منها مثلا الورقة التي أعادت مؤسسة جلوبال ريسيرش نشرها في 19/5/2015 تحت عنوان "مخططات إعادة ترسيم الشرق الأوسط: مشروع الشرق الأوسط الجديد"، بعد صدورها سابقا في العام 2006. والتقرير الذي نشرته ساندي ريفيو في 28/9/2013 بعنوان "تخيّل خريطة معدلة للشرق الأوسط".
وهنا يبرز قلم "مشروع حدود الدم" لإعادة رسم الخطوط والحدود، وقد نشرت تفاصيله "مجلة القوات المسلحة الأمريكية" في 1/6/2006، تحت عنوان "حدود الدم – كيف يبدو الشرق الأوسط أفضل؟"، وهي رؤية وضعها الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيترز، للتفتيت على أسس طائفية وقبلية ومذهبية.
إلا أن مصطلح "مشروع حدود الدم" يعود أساسا للمستشرق الأمريكي من أصل يهودي-بريطاني، برنارد لويس، الذي وضعه في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر (1977-1981) لإعادة تفكيك الشرق الأوسط على أسس قومية، يتم فيها دفع الأتراك والأكراد والعرب والإيرانيين للحروب تمهيدا لإعادة الترسيم، وقد تم إقراره عام 1983 (مدونة حدود الدم).
وقد تم رسم خرائط جديدة للتجمعات العرقية والمذهبية والطائفية، وهي متداولة في عدد من الدراسات والمواقع، مع بعض الاختلافات في التفاصيل: فمثلا يتضمن مشروع حدود الدم تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات: شيعية في الجنوب، وكردية في الشمال وسنية في الوسط، وتقسيم سوريا إلى دولة علوية على ساحل البحر الأبيض، ودولة سنية في حلب، وأخرى حول دمشق، ودولة الدروز في الجولان، وتقسيم مصر إلى دولة سنية وأخرى قبطية في الشمال، ودولة النوبة وعاصمتها أسوان، ودولة للبدو في سيناء، ودولة في شمال سيناء بعد ضم غزة. وإعادة ترسيم شمال إفريقيا إلى سبع دول طائفية، منها مثلا دولة البربر، ودولة البوليساريو، ودولة الأمازيغ، وهكذا. أما المخطط لمنطقة الخليج والجزيرة العربية فيشمل إلغاء الدول القائمة وإعادة تقسيمها إلى ثلاث دويلات: دولة الإحساء الشيعية (تضم قطر والبحرين والكويت والإمارات وعمان)، ودولة نجد السنية، ودولة الحجاز السنية.
إن تفتيت المسلمين وتحويلهم عن مفهوم الأمة الواحدة إلى طوائف وقوميات متناحرة، هو ما يراهن عليه الغرب لمنع انبثاق مشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة أو تأخيره على أقل تقدير. وهو يسير في مشروع التفتيت ببطء ليكون سلسا ضمن أسلوب "التقسيم الناعم"، إذ ليس بالضرورة أن يكون هذا التقسيم سريعا أو معلنا في البداية، بل تتصاعد وتيرته مع تزايد الحروب، ومن خلال العمل المسلح الذي تنخرط به الجماعات والتنظيمات المسلحة أو الطوائف أو الأقليات، وينتج عنه نشوء "شبه دول" ككيانات (دون كيان الدولة)، وهو ما نلاحظه اليوم في كيانات مشوّهة مثل "الدولة الإسلامية"، وفي التمدد الحوثي في اليمن، وفي إعادة التموضع العلوي في الساحل السوري...
إن الأحداث الجارية في المنطقة تشير إلى سير أمريكا في هذا المخطط عن طريق العملاء، وقد تصاعدت وتيرة الشحن الطائفي في العراق وسوريا واليمن، وظهرت دعوات التخويف من الهلال الشيعي والفارسي، والتحذير من المد الشيعي، ومن ثم التباكي على أن الشيعة أقلية في السعودية، في مقابل التباكي على أن السنة أقلية في إيران. أضف إلى ذلك تسخين ما يسمى بقضية الأكراد.
كل ذلك التصعيد الطائفي والقومي هو سير ضمن مشروع حدود الدم، الذي تواجه أمريكا به الأمة، وتعمل من خلاله على إعادة صياغة المنطقة بما يحقق مصالحها. ولذلك جدير بالمسلمين أن لا يكونوا أداة في ذلك المشروع، وأن يتنبهوا لخطورة الخطاب الطائفي والمذهبي والقومي، ولكونه محطة في هذا المشروع الأمريكي، وهو يناقض الغايات الحيوية للأمة في التحرر والوحدة وتطبيق الشريعة.
رأيك في الموضوع