لقد قيل في المثل قديما - وهو قول حق -: "أنه عند الفتن والابتلاءات، تعرف معادن الرجال.." وقيل كذلك: "أن النار تكشف عن أصالة المعادن؛ فيظهر المعدن الأصيل على حقيقته..."؛ وكذلك الأمر في الدول والاتحادات، والتحالفات الدولية؛ القائمة على أساس ضعيف أوهى من بيت العنكبوت.. فالنكبات الاقتصادية والسياسة، والعسكرية هي التي تكشف عن قوة الدول، وقوة اقتصادها، وقوة الآصرة والرابطة المبدئية التي تجمعها، وتوحدها في دولة واحدة، أو في اتحادات تجمع عدة دول...
فقبل أيام قليلة في 11/5/2015 انعقد في العاصمة البلجيكية (بروكسل) مؤتمر للدول المشاركة في منطقة اليورو من الاتحاد الأوروبي؛ وهي حوالي 19 دولة، وشارك في هذا الاجتماع أعضاء المفوضية الأوروبية، و(جيروين ديسلبلوم)؛ رئيسمجموعة وزراء مالية منطقة اليورو، وانضم إليه فيما بعد باقي دول الاتحاد الأوروبي (28 دولة)؛ أعضاء مجلس (الإيكومين الاقتصادي المالي الأوروبي)، وقد ذكرت (جريدة الشرق الأوسط اللندنية) بتاريخ 11/5/2015 تصريحاً لرئيس مجموعة اليورو قال فيه: "أنه لا يتوقع أن تصدر نتائج حول التحرك الأوروبي تجاه اليونان.. وإني متشائم من هذا الأمر"... وقد كان الموضوع الرئيس في هذا الاجتماع هو (الأزمات الاقتصادية في اليونان)، ومسألة الديون المتراكمة، وعدم القدرة على السداد، حيث بلغت ديونها؛ المتراكمة بعد عملية إنقاذ الميزانية اليونانية من العجز خلال الأعوام 2010-2012 حوالي 24 مليار يورو.. وقد بحث في هذا الاجتماع بالإضافة إلى أزمة اليونان، موضوع الصندوق الأوروبي للاستثمار الذي طرحته المفوضية الأوروبية بقيمة 315 مليار يورو... ولكي ندرك حقيقة الأزمات التي يمر بها الاتحاد الأوروبي، ومنطقة اليورو على وجه الخصوص، وتهدّد بانحلال هذا العقد الواهي الضعيف، غير المتجانس؛ لا بد أن نقف على الأمور التالية:
1- إن تشكيلة الاتحاد الأوروبي هي تشكيلة غير متجانسة، ولا متكافئة اقتصادياً، والجامع الذي يجمع هذه الدول في منطقة اليورو، هو جامع سياسي كردة فعل على تحكمات أمريكا وسياساتها وخاصة تحكمات الدولار بعد سنة 1971م، وهو غير قائم على أسس اقتصادية سليمة؛ أما الناحية المالية (الاقتصادية) في هذا الاتحاد فكانت العملة هي أبرز تجاربها، وأولى خطواتها البارزة نحو الوحدة الاقتصادية؛ بإنشاء عملة أوروبية موحدة وإنشاء صندوق أوروبي موحد، وسوق أوروبي مشترك، وتعرفة جمركية موحدة وغير ذلك...
2- إن عدم التكافؤ والتجانس الاقتصادي بين دول الاتحاد في منطقة اليورو، قد أجبر بعض الدول على الاستدانة من أجل مجاراة شروط الاتحاد في الانضمام لمنطقة اليورو، وقد كانت أبرز الشروط في البداية والتي انبثقت عن معاهدة ماستريخت سنة 1992: 1- أن لا يتعدّى معدّل التضخم للدولة 1.5%، 2- أن لا يزيد معدل العجز في الميزانية عن 3% من إجمالي الناتج المحلي، 3- أن لا يزيد حجم الدين العام للدولة عن 60% من الناتج الإجمالي.. فاضطرت دولة مثل اليونان للاقتراض من البنوك العالمية مليارات الدولارات من أجل الوصول إلى هذا المستوى الاقتصادي، ولم يحالفها الحظ بعد... في رفع مستواها الاقتصادي كما كانت تنتظر وتطمع بل جاءت الأمور على عكس ما تشتهيه حيث زادت نكساتها الاقتصادية في ظل الأزمة المالية منذ 2008 حتى اليوم، حيث بلغت ديونها حوالي 240مليار يورو أي حوالي 270 مليار دولار. وهذه الديون تفوق ناتجها المحلي بمقدار 160%، ووصل العجز في موازنتها إلى 13،6%، مع العلم أن مستوى العجز المسموح به أوروبيّاً هو 3%. فقط.
3- لقد أحدثت الأزمات في اليونان بسبب انضمامها لمنطقة اليورو مشاكل كثيرة لعدة حكومات متعاقبة، وقد أدت إلى استقالة حكومة ( جورج بابا ندريو) 2011، وجعلت الشعب اليوناني يعيش أزمات سياسة واقتصادية كبيرة باتت في فترة من الفترات تهدد اليونان؛ إما بالانهيار التام أو بالرجوع إلى وضعه الأول قبل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وهذا ما تنبأ به أكثر من خبير اقتصادي.. وإن خروج اليونان إن آجلاً أو عاجلاً سوف يكون المفتاح نحو خروج عدة دول بنفس الطريقة من هذا الاتحاد مثل (البرتغال، وإيطاليا، وإسبانيا)....وقد وردت في السابق تصريحات (لأنجيلا ميركل) رئيسة وزراء ألمانيا تحذر فيها من مستقبل منطقة اليورو، وتؤكد على أن ألمانيا لا تريد أن تفلس أية دولة من دوله، لأن ذلك يعني إفلاس الجميع، وقالت: "إن أوروبا تعيش أصعب الأوقات منذ الحرب العالمية الثانية... وإذا فشل اليورو فإن أوروبا ستفشل.."، ويقول (كارل هايتر) مدير وكالة إدارة الديون الألمانية: "إن إيقاف الاتحاد الأوروبي لآلية إنقاذ اليونان، وتركها تسقط في الإفلاس يمثل الخيار الأفضل لمنع انهيار مالي واقتصادي في دول أخرى في منطقة اليورو.."
إن هذه الأزمة العالمية لمنطقة اليورو تهدد الاقتصاد العالمي برمته بالدمار، إذا حصل فيها انهيارات مستقبلية، وسيكون لها تأثير مباشر على الاقتصاد الأمريكي، لأن اليورو يستحوذ على 40% تقريبا من المدخرات العالمية، ومنطقته تعتبر القوة الاقتصادية الثانية بعد أمريكا.. يقول الخبير الاقتصادي (أدوين ترومان): "إن أكبر خطر تواجهه الولايات المتحدة حاليا هو: خروج الأزمة الأوروبية عن السيطرة، وإن أوروبا قد تصبح القشة التي تقصم ظهر البعير.."
إننا نقف عند حقيقة مهمة في نهاية هذا الموضوع وهي: أن الاتحادات بين الدول هي اتحادات فاشلة، حتى لو بقيت واستمرت فترة من الزمن، فمصيرها الانتهاء والانهيار.. فقد انهار الاتحاد السوفيتي ذو القبضة الحديدية سنة 1991، وها هو الاتحاد الأوروبي على أولى خطوات الانهيار.. وسيكون مصير الولايات المتحدة أيضاً الانهيار إن عاجلاً أو آجلاً.. ونقول في الختام: إن النظام الصحيح للوحدة بين الدول هو النظام الذي يصهر الشعوب في عقيدة واحدة، ونظام واحد من الله عز وجل؛ أي يكون نظاماً صحيحاً يقنع العقل، ويوافق الفطرة الإنسانية، وهو النظام الذي يوحدها في وحدة حقيقية لا شكلية؛ في نظام وحدة مركزي غير متعدد الدول المستقلة، وهذا النظام غير موجود إلا في نظام الخلافة؛ التي تجمع كل أمة الإسلام في دولة واحدة تحت إمرة خليفة واحد في كل الأرض...
رأيك في الموضوع