يخطئ من يظن أن الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب بين جارين على السيادة أو لتعارض المصالح الاقتصادية بين البلدين. فالحرب بينهما أبعد بكثير من ذلك. فهذه حرب لها أبعاد سياسية خطيرة جدا في العالم. قد يبدو المتصارعان فيها روسيا وأوكرانيا، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الأزمة يتدخل فيها كل اللاعبين ذوي العيار الثقيل سياسيا. فيقف وراء هذه الأزمة على الخصوص الإنجليز وأوروبا والأمريكان ومن جهة أخرى تقف روسيا متأهبة في الطرف الآخر. أزمة تذكر إلى حد ما بالحرب الباردة القديمة.
بدء الأزمة (الثورة البرتقالية)
نشأت الأزمة الروسية الأوكرانية بدعم سياسي ومالي ضخم من قبل أمريكا لأوكرانيا ضمن السياسة الأمريكية تجاه روسيا والتي تقضي بتحجيم روسيا وقضم جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. فبعد تفرد أمريكا سياسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي اتخذت أمريكا استراتيجية جديدة ضد روسيا. استراتيجية تقضي بتحجيم روسيا وعزل نفوذها عن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة. وبسبب قوة أمريكا النافذة آنذاك وتفردها في السياسة العالمية لم تجد أوروبا بُدّاً من محاكاة سياسة أمريكا ضد روسيا سيما وأن هذه السياسة الأمريكية ضد روسيا مفيدة بشكل كبير لأوروبا التي تقع على حدود روسيا وعانت الأمرّين من الاتحاد السوفييتي. فاشتد الصراع بين أمريكا وبين روسيا في كثير من دول الاتحاد السوفييتي السابق. حيث بدأت أمريكا باستمالة رؤساء كل من أوزبيكستان وقرغيزستان وغيرها من الدول ودعمت المجاهدين في الشيشان بصورة أو بأخرى ونجحت إلى حد بعيد في تحجيم روسيا وفصل بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي القديمة عنها فترة من الوقت. ثم جاءت الضربة العسكرية التي وجهها الناتو إلى صربيا كضربة قاسية للكبرياء الروسي لما لصربيا من علاقة وطيدة بروسيا منذ زمن بعيد. ففترة التسعينات من القرن الماضي والسنوات الأولى من هذا القرن كانت أمريكا توجه ضربات تلو الضربات لروسيا وعلى جميع الأصعدة سياسيا واقتصاديا وجغرافيا. وكان الأوروبيون وخصوصا فرنسا وألمانيا يساندون أمريكا في سياسة تحجيم روسيا بشكل كبير. وقد أصبحت أوروبا ملجأ مريحا للرأسماليين الروس الذين نهبوا روسيا وفروا إلى أوروبا، إضافة إلى الدعم الكبير الذي كانت أوروبا تقدمه للمجاهدين الشيشان في حربهم ضد روسيا. وفي هذا السياق وضمن تلك الاستراتيجية الأمريكية تجاه روسيا برزت الأزمة الأوكرانية أول ما برزت بالثورة البرتقالية التي كانت تقف وراءها بصورة واضحة للغاية أمريكا، فقد كان حجم ضخ الأموال الهائلة لاستمالة السياسيين الأوكرانيين قد آتت أكلها وأنتجت ثورة مزركشة بمسميات الديمقراطية والتحرر من العبودية الروسية وحقوق الإنسان والكثير الكثير من المسميات التي تزركش إلى حد بعيد أفظع سياسات الغرب في العالم. ولذا يمكن القول أن خيوط الأزمة الروسية الأوكرانية ترجع إلى هذه الثورة البرتقالية المفتعلة في أوكرانيا من قبل أمريكا وبمساندة أوروبا وبأسماء ومسميات تبدو جميلة وتخفي وراءها استراتيجية تحجيم روسيا.
الموقف الدولي وتزعزع العرش الأمريكي
ثم جاء الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق وسياسة أمريكا الرعناء في العالم ومحاولتها سحق كل معارض وإزالة كل عائق أمام تفردها في خيرات العالم، فجاءت الحروب بعد الحروب التي أثقلت كاهل أمريكا وأجبرت أعداءها على التوحد ضدها في بعض القضايا وخصوصا العراق، ما أدى إلى حد بعيد إلى تزعزع العرش الأمريكي وازدياد حنق الشعوب والأنظمة في العالم على سياسة أمريكا هذه، الأمر الذي أدى إلى أن استنشقت روسيا بعض أنفاسها سيما بعد مجيء الرئيس بوتين إلى الحكم، فقد استطاع الرئيس الروسي أن يوقف النزيف الروسي المتمثل بالأزمة الشيشانية وبتسلط رؤوس الأموال الموالين للغرب على قسم كبير من خيرات روسيا، فقام بحرب بشعة ضد المسلمين في الشيشان وحول عروس الشمال إلى خرابة وسلم الشيشان وحكمها إلى عصابة رمضان قاديروف الذي حول الشيشان إلى سجن كبير. وأما رؤوس الأموال فقد قام بوتين بإيقاف السرقات التي أنهكت اقتصاد روسيا ووضع حدا للرأسماليين الروس الموالين لأوروبا وأمريكا. أما الأمر الأكبر الذي نجح فيه الرئيس الروسي فهو قدرته على إدارة الصراع مع أمريكا ومقاومة استراتيجية التحجيم ضد روسيا. فقد استطاع بعد فترة قصيرة استمالة بعض رؤساء جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وإعادة نفوذ روسيا لها وطرد نفوذ أمريكا منها. وأما في أوكرانيا موضوع البحث فقد نجح بعد وقت قصير بالقضاء على الرئيس الذي أفرزته الثورة البرتقالية وإبداله برئيس موالٍ لروسيا. وبهذا فقد استطاعت روسيا إلى حد كبير إيقاف تمدد أمريكا في الدول المتاخمة لها على الحدود. وبهذا هدأت الأزمة الأوكرانية لبضع سنين بعد أن استقر الحكم إلى حد ما لروسيا في أوكرانيا واستمر الوضع على ذلك حتى أطلت الأزمة برأسها من جديد.
الأزمة الأخيرة:
وسبب تطور الأزمة بصورة سريعة هو أن الروس أدركوا مدى أهمية انتهاز الفرص في مثل هذا التوقيت، حيث الصراع على أوجه بين أمريكا وأوروبا في الشرق الأوسط وأفريقيا، وأدرك الروس أيضا مدى حاجة أمريكا لهم في الملف السوري. ولذا قام الروس وعلى غير عادتهم بالتصرف بصورة جادة ولائقة بدولة عظمى انتُهكت لها أهداف حيوية. فالتوقيت كان مناسبا جدا بالنسبة للروس أن يتصرفوا بهذا الشكل اللافت للنظر حينما قاموا باحتلال القرم والسيطرة على بعض المدن البحرية في أوكرانيا.
أما عن أبعاد المشكلة. فيمكن القول أنه إذا كان هناك حرب عالمية بين الدول العظمى في عالم يسوده الفقر والأزمات الاقتصادية والسياسية الكثيرة التي يقف وراءها النظام الرأسمالي، فإن الأزمة الأوكرانية مرشحة لتكون أحد الأسباب المهمة لبدء هكذا حرب لموقعها الجغرافي بالنسبة للدول العظمى ولشعور الدول العظمى بفشل المبدأ الرأسمالي الذي يقود العالم وبحتمية حصول تغيير جديد في العالم، الأمر الذي يجعل الجميع يتجهز لهذا التغيير الجديد القادم، وهذه الحالة من التأهب بين الدول العظمى إضافة للأزمات الاقتصادية التي تعصف بالدول الكبرى، كل هذا يؤدي إلى اختفاء المنطق السليم في إدارة الأزمات ما يؤدي إلى نشوب الحروب والصراعات. وإن الأزمة الأوكرانية هي من أشد الأزمات تعقيدا بين الدول الكبرى.
رأيك في الموضوع