نشأ فكر التسوية بعد صراع دموي طويل في أوروبا انتهى بتسوية تاريخية منعت الحسم بين حكم الدين وحكم الإلحاد، حيث تمت الاستعاضة عنهما بالعقيدة العلمانية. ومن العلمانية نشأت فكرة أن يشرع الشعب لنفسه. وهذا النمط من التشريع كان يحتاج إلى الحريات المطلقة، ومن الحريات المطلقة أعطيت الحرية الاقتصادية. ومن باب الحرية الاقتصادية دخل الرأسماليون إلى الحكم وسيطروا عليه تمام السيطرة. وبهذا نشأ المبدأ الرأسمالي والنظام الرأسمالي والعقيدة العلمانية، ونشأ منهاج التسوية نمطًا أساسيًا في التعاطي مع عقد الحياة، سيما في حل النزاعات حتى وإن كان نزاعا بين حق وباطل.
وقد كانت الذروة لهذه الرأسمالية عندما انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والشيوعية وخلت الساحة إلى حد بعيد للرأسمالية ومبدئها، فتزعمت أمريكا العالم وأوهمت الشعوب بأنها ستقودهم إلى السعادة ورغد العيش. فكان من أول ما قدمته للشعوب في تلك المرحلة مشروع العولمة وبأنها ستقرب بين الشعوب عبر تقوية وسائل الاتصالات وتطبيق فكرة اقتصاد السوق.
لكن الأمر انتهى بالصدمة عند هذه الشعوب حين ازداد الفقر والبطالة وتضخمت العملة وتوالت الانهيارات الاقتصادية مقابل الثراء المتصاعد لمجموعة صغيرة من الناس في العالم. فأدركت الشعوب أنه قد تم كشفها أمام جشع الرأسماليين وخططهم لاحتكار أسواقهم والهيمنة على مقدراتهم. ثم أضيف إلى ذلك سلسلة من الحروب التي اجتاحت أنحاء كثيرة من العالم، والتي تركزت بشكل أساسي في العالم الإسلامي الذي ظهرت فيه دعوات للخروج والتحرر من المنظومة الدولية، فعوملت هذه الدعوات بوحشية.
وقد نتج عن هذه الحروب ما يشبه آثار الحروب العالمية، حيث استعملت فيها جميع أنواع الأسلحة ووسائل القتل ما دون القنبلة الذرية. فقتل بذلك الملايين وجرح عشرات الملايين ودمرت مدن كثيرة وشردت شعوب بأكملها. كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم، وبتصوير مباشر من كاميرات الأخبار! فزاد هذا الأمر من الصدمة عند الشعوب ومن حقدها على أسياد النظام الرأسمالي.
وعلى أثر هذا التردي في الوضع العالمي بدأت الشعوب تعيد النظر في "منهاج التسوية"، وبدأ التمرد على الرأسماليين، وفي مقدمتهم أمريكا. وقد تلا هذا التمرد عدد من الانسحابات من مشروع العولمة، وعاد التوجه من جديد إلى فكرة حسم الصراع ما بين الأيديولوجيات. وقد أطلق الغرب تسمية "التطرف" على دعوات الحسم التي ظهرت عند الشعوب مثل "الإسلام المتطرف" و"اليمين المتطرف".
ولكي تحافظ أمريكا على موقعها في العالم بدأت تحاول أن تعيد العالم إلى أجواء شد الحبال الشرس عبر إثارة التناقضات لكي تُشغل الشعوب بصراعات استنزاف وذلك لمحاولة تيئيسهم من الحسم وإعادتهم إلى فكرة الحل "بالتسوية" من جديد.
وقد ظهر هذا في مناطق عدة من العالم، فظهر في سوريا، حيث شحنت أمريكا بلاد الشام بالجيش الإيراني والروسي والكردي، كما استغلت تنظيم الدولة لمحاولة استنزاف مخزون الثورة، ثم عملت على الوسوسة للفصائل للقبول "بالتسوية السياسية" مع النظام تحت ضغط الاستنزاف.
في اليمن دفعت أمريكا إيران لتدعم حرب الحوثيين والسعودية لتدمر اليمن من أجل استنزاف خصومها من عملاء الإنجليز ليقبلوا بالتسوية.
في ليبيا دفعت أمريكا بعميلها حفتر لاستنزاف البلاد كي يقبل خصومها بالتسوية.
في مصر عرضت أمريكا على الإخوان منصب الرئاسة مقابل "التسوية السياسية بكبح جماح الثورة" وحماية رؤوس العسكر من السقوط على أيدي الثوار.
في أفغانستان تقوم أمريكا بالضغط على تنظيم طالبان لكي تدخله في التسوية السياسية مع الحكومة الأفغانية.
في منطقة الصين حاولت أمريكا إدخال روسيا والآن اليابان في صراع مع كوريا الشمالية من أجل جر الصين إلى تسوية تكبلها إقليميا ودوليا.
هكذا هو فكر التسوية... ينشأ بعد نفاد صبر الخصوم وطول أمد الاستنزاف، فتبدأ وساوس شياطين الإنس والجن بالضغط على أصحاب القضية، فتحاول أن تقنعهم بالتفريط بمبادئهم وثوابتهم تحت عناوين متعددة، مثل "الواقعية" و"تغليب المصلحة" و"نحن مع ما يطلبه الشعب" و"الناس تعبت"… وغيرها من العناوين التي تعود في حقيقتها إلى فكرة واحدة، وهي أن قادة الصراع بالأساس غير مؤهلين لهكذا أعباء وقد نفد ما عندهم من مخزون الصبر وأصابتهم الخيبة.
وما يسعنا مع هؤلاء إلا أن نشفق عليهم وعلى الأمة المكلومة قبلهم.
وهنا لا بد من العودة إلى سيرة رسول الله e وأن نتذكر كيف أنه كان يرفض دائما التنازل عن ثوابت قضية الإسلام، ألا وهي أن يكون الحكم خالصا لسيادة الشرع، رغم كل عروض التسوية التي قدمها له خصوم الإسلام. فوجدناه لم يقبل بنصف الحكم ولا بمعظمه ولا بتغيير أي جزئية أنزلها الله ولو أدى ذلك إلى هلاكه.
فقد وعدت قريش سيدنا محمدًا e بكثير من المغريات لكنه رفض أي مساومة وأي تسوية. فقد جاء إليه عتبة بتفويض من قريش وعرض عليه أمورًا، فكان من جملة ما عرضه عليه أن يترأس قريشًا، لكنه رفض رفضا قاطعا. قال عتبة: "إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه".
وقد أيد القرآن موقف رسول الله e ورفضه الدائم لأي تسوية تعرضها قريش مهما كانت عظيمة ومغرية. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. وكان إصراره e رغم حالة الضعف الأمني التي كانت تعتري دعوته، ورغم استحكام قريش بشبابه وإذاقتهم أصنافا من الشقاء، من مقاطعة وإهانات وسجن وتعذيب وقتل وتشريد... وذلك أن سنة الله في الدعوة النقية أنها ستواجه بالرفض والأذى. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.
جميع هذه الآيات تخبرنا أن الله يريد أن يختبر صبرنا كما اختبر صبر الأمم التي من قبلنا، وأن الطريق في هذا الصبر هو التأسي بسيدنا محمد e، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
فيا أيها المسلمون، تأسوا برسول الله e، لا تحيدوا عن منهاجه فهو لم يحِد، ولا تغرينكم الوعود بالتسوية، فإنها من منهاج ملة الكفر، وإن الشياطين تَعِدُ بالنار ولا تعد بالفلاح.
بقلم: المهندس صلاح الدين عضاضة
رأيك في الموضوع