إن الحديث عن الثبات على المبدأ فيه تأسٍ بالرسول ﷺ وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، وهو أيضا من السبل الهادية إلى الجنة، وهو دليل على تمكن حب الله تعالى وحب رسوله ﷺ وتمسك بالعقيدة والصبر عليها وعلى تكاليفها حتى الممات.
والثبات في اللغة: هو البقاء وعدم الزوال، أو الثبات على الرأي والاستمرار عليه بالدليل، والثبات بمعنى الشجاعة والفاعلية. وفي الاصطلاح: الاستقامة على طريق الهدى والتمسك به مع العزم والإصرار على سلوك سبيل الحق والخير وعدم الالتفات لغيره من الأهواء ووساوس الشيطان مع الحرص على التوبة إلى الله تعالى حال الوقوع في المعاصي والآثام، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى جاء خطابا للنبي ﷺ وللمؤمنين ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾.
إن أعظم الفتن هي ترك الوحي المنزل وأعظم منه الافتراء على الدين والكذب على النبي الأمين ﷺ والأخذ بحكم الطاغوت، فكان الحكم الديمقراطي افتراء على الدين، وموالاة الكافرين والتطبيع معهم افتراء على الدين أيضا، وجعل الحياة طبيعية مع الكافر المستعمر شذوذ في العلاقات الدولية وافتراء على الدين، وإغلاق المساجد ومنع تحفيظ القرآن العظيم وتقييد الطواف حول الكعبة المشرفة ومنع المسلمين من تقبيل الحجر الأسود ومنعهم من لمس الركن اليماني، كل ذلك افتراء على الدين وترك للثوابت التي في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ.
ولقد جاء في الحديث الذي رواه مالك والحاكم أن رسول الله ﷺ قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا؛ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». فالضلال كل الضلال والزيغ كل الزيغ في ترك هذين الأمرين والبحث عن حلول لمشاكلنا وقضايانا في غيرهما، لذلك كان دعاء العلماء وأهل الإسلام على الدوام قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾.
فالثبات على المبدأ يدل على صلاح المنهج الذي يسير عليه المؤمن وعلى قوة إيمانه ويقينه بالله تعالى، فحامل الدعوة دائما متيقظ لما يمكر لهذا الدين، والواقع الآسن وجمود المجتمع وعدم استجابتهم للدعوة وطول المسير كل ذلك دليلا على صدقه وإخلاصه وأنه سيصل إلى تحقيق أهدافه، وأن دعوته ستبلغ ما بلغ الليل والنهار، ومهما تداعت عليه وعلى دعوته دعايات الكفر وأهل الفسق والفجور فهو المنتصر على الدوام ما دام ثابتا على فكرته ودعوته لا يهمه إلا الدليل على صحة فعله ويقينه أن الله معه ومؤيد له «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
وإن الثبات على المبدأ يحقق لحامل الدعوة ثقة الناس به وبما يدعو إليه فيكون مؤثرا فيهم فينشر الطمأنينة بينهم وأن الله بالغ أمره فيلجؤون إليه إن أصابهم أمر ما. فيبحثون عنده عن الخلاص وهو يردد قول الرسول ﷺ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري، ويقول لهم ما روي عن تميم الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» رواه أحمد في مسنده.
حامل الدعوة لا يخضع للضغوط ولا يستسلم للواقع، حامل الدعوة لا يتأثر بمطالب المتحمسين المستعجلين فلا يتزحزح عن ثوابته وثباته، حامل الدعوة إذا فاوض لا يرضى بأنصاف الحلول لأن الحق لا يتجزأ قدوته في ذلك رسول الله ﷺ، لا يقبل التنازل عن شيء جراء عدم قبول كثير من الناس لدعوته، فدعوته ﷺ هي دعوتك ليس لك أن تتخير منها ما تشاء على حسب حالك أو ما يناسبك، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، ودعوة رسول الله ﷺ التي يثبت عليها المؤمنون الصادقون هي «أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَكَذَّبْتَ رُسُلَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» نعم الله غني عن غير الثابتين على الدين - البراجماتيين - الذين يتلونون كما الحرباءة، لكن بالمثال يتضح المقال؛ فهذا الثبات نراه في موقف بلال بن رباح رضي الله عنه وثباته على قول "أحد أحد"، ما غير ولا بدل حتى نصره الله وهو على حاله، وهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه قدم لتضرب عنقه فقالوا له هل تحب أن يكون محمداً مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال رضي الله عنه "والله ما أحب أن يكون رسول الله في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا في أهلي سالما"، وهذا خباب رضي الله عنه الذي صبر على تعذيب أم أنمار، فكانت تأخذ الحديد المحمي الملتهب وتضعه فوق رأسه ونافوخه وخباب يتلوى من الألم حتى إنهم كانوا يلصقون على ظهره بالرضف المحمي حتى ذهب لحمه رضي الله عنه وهو على ثباته، فيمر عليه النبي ﷺ فيقول «اللَّهُمَّ انْصُرْ خَبَّاباً»... والمقام لا يتسع إلى ذكر الأمثلة والنماذج الدالة على الثبات على المبدأ.
وأخيرا لا بد أن يعي كل مسلم أن الثبات على المبدأ هو النصر بعينه، أما التقلب وتغيير الثوابت والأصول تحت ضغط الناس والواقع فهو الهزيمة والسقوط في هاوية الارتهان لمن خضع لهم، وأن نصرة الدين النصرة التامة والشاملة شرط لمن ينال شرف حمل الدعوة وشرف نصرة الدين وشرف التأسي بالنبي الأمين ﷺ، والثبات على المبدأ يكون "نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا في عسرنا ويسرنا وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نقول بالحق في الله لا نخاف في الله لومة لائم"، لذلك على حامل الدعوة أن يتواصى بالصبر على الدوام في العسر واليسر، وعليه أن يحرص على الثبات والتخلق بأخلاق الثابتين، فنحن في زمن الفتن والمغريات، فما لنا غير كتاب الله تعالى نتمسك به ونثبت عليه، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. وإن بلوغ الغاية شرطه نصرة دين الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
بقلم: سعيد الكرمي (أبو عبد الرحمن)
رأيك في الموضوع