مضى رجب الخير 1443 للهجرة، ومضت معه ذكريات محفورة في أذهان المسلمين، منها المعجز وهي الإسراء والمعراج لرسول الله ﷺ، ومنها المفرح وهي تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصليبي على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ومنها المؤلم وهي هدم دولة الخلافة العثمانية على يد مجرم العصر مصطفى كمال عليه من الله ما يستحق. ولنا مع هذه الذكريات الثلاث وقفات ثلاث:
الوقفة الأولى مع الإسراء والمعراج: سرّى الله سبحانه وتعالى بهذه الحادثة عن النبي ﷺ بعد الحزن الذي أصابه بفقد زوجه خديجة رضي الله عنها، ووفاة عمه أبي طالب، وقوى بها الموقف الدعوي للنبي ﷺ بين قومه المكذبين لدعوته، بالرغم من أنهم كانوا يقرون له من قبل بالصدق والأمانة، فكانت حادثة الإسراء والمعراج معجزة من العيار الثقيل، ومن الأدلة القاطعة التي عززت إيمان المؤمنين، وزعزعت أقوال الكافرين وأكاذيبهم، وكانت المقدمة الأولى لزحف المسلمين نحو بيت المقدس بإصرار وعزم لا يلينان ولا يفتران. وأكدت سورة الإسراء على أن المسلمين سيقومون بتحرير بيت المقدس كلما تعرض للاحتلال من أي نوع كان، صليبيا أو يهوديا، في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾.
الوقفة الثانية مع تحرير بيت المقدس: كانت الهجرة النبوية خطوة متقدمة نحو بيت المقدس، حيث وُجد الكيان السياسي الأول للمسلمين، والذي بإمكانه أن يجيش الجيوش لفتح بيت المقدس وإعادة المسجد الأقصى الذي بني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة. وبعد إقامة الدولة الإسلامية في المدينة، تتابعت المعارك لفتح البلدان ونشر الإسلام، منها ما كان داخل الجزيرة العربية كبدر الكبرى وأحد والخندق وفتح مكة، ومنها ما كان موجها خارجها نحو بلاد الشام وبيت المقدس كتبوك ومؤتة وبعث أسامة، ثم أجنادين واليرموك، ومنها ما كان موجها نحو شمال أفريقيا وشرق آسيا. ثم عاد الصليبيون فاحتلوا بيت المقدس بعد خمسة قرون من تحريره من براثنهم، ومكث تحت احتلالهم هذا زهاء تسعين عاما، حتى قيض الله لهذه الأمة قائدا ربانيا مجاهدا في سبيل لله، ليخوض مع الصليبيين المعارك الطاحنة، وعلى رأسها معركة حطين سنة 583 للهجرة، والتي انتهت بهزيمة الجيش الصليبي، واستعادة القدس من أيديهم. وها قد مضى على احتلال بيت المقدس أكثر من قرن من الزمان، وكما عادوا لاحتلاله فسيعود المسلمون لتحريره بجيوش الخلافة قريبا بإذن الله.
الوقفة الثالثة مع هدم الخلافة: على إثر الحرب العالمية الأولى، وبعد خيانة بعض الترك بزعامة مصطفى كمال وبعض العرب بزعامة حسين بن علي عليهما من الله ما يستحقان، تمكن الكفار الإنجليز والفرنسيون من الإطاحة بكيان المسلمين السياسي ولأول مرة في التاريخ، لتكون كارثة بكل المعايير تقع على رؤوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وبهدمها ظهر استحقاقان شرعيان؛ الأول استحقاق مبايعة إمام للمسلمين يحكمهم بشرع الله، وذلك خلال يومين وثلاث ليال كحد أقصى، وهذا لم يحصل في المدة المقررة شرعا، بل ومضى على هذا الاستحقاق مائة عام وعام حتى هذا اليوم. وأما الاستحقاق الشرعي الثاني فهو لزوم أن يعمل المسلمون جميعا بالطريقة الشرعية التي عمل بها النبي ﷺ لإقامة الدولة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية بالشقين الدعوي والنصروي، وذلك بحمل الدعوة الإسلامية والعمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، واستنصار أهل القوة والمنعة في المسلمين ليضعوا أيديهم بأيدي العاملين لإبرام بيعة جديدة على غرار بيعة العقبة الثانية التي أبرمها الأنصار مع النبي ﷺ، وقامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة إثرها.
والخلاصة أن خلو أعناق المسلمين من بيعة لإمام يحكمهم بشرع الله يجعلهم آثمين جميعا إلا من تلبس بالعمل المفضي لإيجاد الإمام الذي يستحق تلك البيعة (انعقادا وانقيادا). ولا يقولن قائل بأن أحدا من حكام المسلمين اليوم يستحق أن نضع له في أعناقنا بيعة، لسبب شرعي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وهو أنهم جميعا لا يحكمون بما أنزل الله، بل إنهم يوالون أعداء الله ورسوله والمؤمنين، ويجتهدون ما وسعهم لكبح جماح المسلمين العاملين لإقامة الدين، فيعتقلونهم ويعذبونهم ويقتلونهم. والأدهى من ذلك والأمر أنهم قد جندوا من علماء المسلمين من يزين لهم باطلهم، ويعينهم على ظلمهم، ويوقع في روع المسلمين بأنهم أولياء أمر تجب طاعتهم، متعدين بذلك على قول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾. ومتجاوزين الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي». وضاربين عرض الحائط بقول ابن جرير عن عطاء في تفسير قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، قال: طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة. فهل هؤلاء الأقنان من أمراء رسول الله ﷺ؟ أم أنهم من أمراء أمريكا وأوروبا؟ وهل من أحد منهم من يتبع الكتاب والسنة؟ فيا علماء المسلمين: انتبهوا! فالمرء مع من أحب.
وفي الختام، فإننا نهيب بالمسلمين جميعا أن يهبوا من فورهم هذا للعمل لإعزاز الدين وإقامته، وأن يحملوا دعوة الإسلام كما حملها مصعب بن عمير في المدينة، وأن ينصروا دين الله كما نصره سعد بن معاذ في بيعة العقبة الثانية. فيا أيها المسلم: كن مصعبا أو سعدا، ولا تكن الثالثة فتأثم، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع