قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
ترسم هذه الآيات الكريمة السيناريو السياسي للنتيجة الحتمية لالتقاء جمعيْن؛ جمع يقوده نبي مرسل صابر محتسب يمتلئ قلبه يقينا بوعد الله ونصره، وجمع الباطل يقوده فرعون طاغوت ذلك العصر، وتسبر الآيات تفاصيل اللقاء لتكون عبرة لسيدنا محمد ﷺ وأمته من بعده ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ في صراعهم مع الباطل والتقائهم الحتمي مع الباطل.
فرعون الذي لحق بجمعه موسى وجمعه وقرب منهم، فلما رأى بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة التوبيخ والجفاء ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، فكان رد موسى عليه السلام رد المتيقن من نصر ربه المتوكل عليه الواثق من وعده، فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم بوعد الله سبحانه له بالهداية والظفر ﴿كَلَّا﴾ أي لن يدركوكم ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ أي بالنصر على العدو ﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي سيدلني على طريق النجاة.
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس: مستحيل، لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور، والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عندما يريد و﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ لك يا محمد ومن معك ولأمتك من بعدك، يَقُول تَعَالَى ذِكْره: إِنَّ فِيمَا فَعَلْت بِفِرْعَوْن وَمَنْ مَعَهُ تَغْرِيقِي إِيَّاهُمْ فِي الْبَحْر إِذْ كَذَّبُوا رَسُولِي مُوسَى وَالْإِنْذَار لِدَلَالَةِ بَيِّنَة يَا مُحَمَّد لِقَوْمِك مِنْ قُرَيْش عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّتِي فِيمَنْ سَلَكَ سَبِيلهمْ مِنْ تَكْذِيب رُسُلِي، وَعِظَة لَهُمْ وَعِبْرَة أَنِ ادَّكَرُوا وَاعْتَبَرُوا أَنْ يَفْعَلُوا مِثْل فِعْلهمْ مِنْ تَكْذِيبك مَعَ الْبُرْهَان وَالْآيَات الَّتِي قَدْ أَتَيْتهمْ، فَيَحِلّ بِهِمْ مِنْ الْعُقُوبَة نَظِير مَا حَلَّ بِهِمْ، وَلَك آيَة فِي فِعْلِي بِمُوسَى، وَتَنْجِيَتِي إِيَّاهُ بَعْد طُول عِلَاجه فِرْعَوْن وَقَوْمه مِنْهُ، وَإِظْهَارِي إِيَّاهُ وَتَوْرِيثه وَقَوْمه دُورهمْ وَأَرْضهمْ وَأَمْوَالهمْ، عَلَى أَنِّي سَالِك فِيك سَبِيله، إِنْ أَنْتَ صَبَرْت صَبْره، وَقُمْت مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة إِلَى مَنْ أَرْسَلْتُك إِلَيْهِ قِيَامه، وَمُظْهِرك عَلَى مُكَذِّبِيك، وَمُعْلِيك عَلَيْهِمْ، وهذا ما كان مع المصطفى ﷺ.
واليوم، يتكرر المشهد ويتراءى الجمعان؛ جمع الأمة الإسلامية تقف وحيدة أمام النظام العالمي كله، أمام أمريكا وروسيا والغرب، فقد ثارت الأمة الإسلامية على الأنظمة العميلة للغرب ولم يكن صراع الأمة مع العملاء الخونة فقط بل كان صراعها مع النظام العالمي الذي تقوده أمريكا، فلم تكن مشكلة الأمة مع قادة عبيد للاستعمار كمبارك وبن علي وبشار المجرم، فهؤلاء أقزام أمام قوة الأمة وحراكها الهادر، أذناب للغرب تستطيع الأمة إزالتهم بسهولة لولا ارتباطهم بالغرب المستعمر وحمايته لهم، فالصراع كان مع من أوجد مبارك وأتى بعده بالسيسي، مع من جاء بابن علي والقذافي وبشار وسائر الحكام الخونة، فوقفت الأمة وجها لوجه مع مشغلي هؤلاء الحكام وداعميهم، فالصراع كان مع النظام العالمي برمته الذي لا يريد للحق أن يظهر وللإسلام أن يسود ويتجسد في دولة الخلافة؛ في قوة سياسة تهدد النظام العالمي الرأسمالي.
نظام استعماري قسم الأمة وأنشأ لها دويلات وحكاماً وأنظمة عميلة وبات يحرسها من غضبة الأمة وسعيها للتغيير، فتراءى الجمعان مرة أخرى ووقفا أمام بعضهما بعضاً، جمع الأمة المتحفزة للتغيير وجمع النظام الدولي الذي يحرس الطواغيت وأنظمتهم، وهنا يتكرر المشهد، لكن الأمة لم تسئ الظنون بالله ولم تجزع كما جزع بنو إسرائيل، بل تمثلت موقف الحق وقالت: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فلم تستسلم ولم تقبل بتغيير دينها ما دام البحر من أمامها والعدو من ورائها! لم ترض الأمة بمشروع الدولة المدنية ولم تستكن لاستبدال عميل بعميل وتغيير الوجوه، ولم تقتنع بحكم يتشارك فيه الحق مع الباطل في برلمانات ومجالس تشريعية يشرّع فيها من دون الله، بل ما زالت تغلي وترنو عيونها للتغيير الجذري.
تغيير جذري حتمي ينتظر الأمة المؤمنة بربها وتعتقد أنها إنْ صَبَرْت على ما أرسل به الرسول ﷺ وَعملت على إقامة الخلافة الراشدة التي أمرها الله بإيجادها، فإن الله مُظْهِرها عَلَى النظام الدولي وَمُعْلِيها عَلَيْه.
فالأمة وكل مخلص فيها شعاره ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فإن الذي أرسل محمداً ﷺ بهذه الرسالة وعده بخلافة على منهاج النبوة، فالأمة ستبقى على يقين بمعية الله ونصره وإنجاز وعده، فقد عاشت تلك المعية وسكن عقلها وقلبها حتمية نصر الله لها.
فقد نصرها الله في أحلك الظروف التي عصفت في تاريخ الأمة، فقد نجت من غزوة الخندق إذ حاصرتها قريش ومعظم قبائل العرب وخانتها يهود، وقد أساء البعض حينها الظن فتصور أنها نهاية الأمة الإسلامية فنجت الأمة وكان فتح مكة! وخرجت الأمة منتصرة من الحملات الصليبية حين كان القرآن مهددا ومكة والمدينة أهدافا، فجاء صلاح الدين وكنس الصليبيين، وكسرت الأمة المغول بعد مجازر سكنت عقول الأمة لقرون وطاف المسلمون برؤوس المغول في شوارع الشام، وجاءت أمريكا فاحتلت أفغانستان وسقطت بغداد وقصفت الشام وشردت الملايين، لكن الأمة لم تستسلم ولم تغير دينها وبقيت تقول ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ وبقي المخلصون يرددون أنهم يريدونها خلافة على منهاج النبوة.
فإن كان المستحيل قد تحقق عندما انفلق البحر لسيدنا موسى عليه السلام، فإن الواجب الشرعي الذي فرضه الله على الأمة الإسلامية في العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ستكون نتيجته تحقق وعد الله بخلافة راشدة على منهاج النبوة وذلك هو السيناريو السياسي الوحيد لوقوف الأمة في وجه النظام العالمي.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع