يقول الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «فُكُّوا الْعَانِيَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ». والعاني هو الأسير.
قال العلماء: ويشمل سهم "وفي الرقاب" افتداء الأسرى المسلمين، وهو مذهب أحمد، وبه قال ابن حبيب من المالكية، واختاره ابن تيمية، وقاله ابن قدامة في الشرح الكبير، وبه صدر قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك للآتي:
- أنه فك رقبة من الأسر، فهو كفك رقبة العبد من الرق.
- إن فيه إعزازا للدين، فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم.
- لأنه يدفعه إلى الأسير لفك رقبته، فأشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين.
وهذا يعني أننا نستطيع أن ندفع من مال الزكاة لفك العاني، فإن لم يوجد مال زكاة في بيت المال، فإنه يُفرض على المسلمين أن يدفعوا مالاً يكفي للقيام بفكاكه. فإذا اختطف الكفار رجلا مسلما وجب علينا أن نفك أسره، وكذلك لو أسروه في حرب بينهم وبين المسلمين، فإنه يجب علينا أن نفك أسره. وفك أسره فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الآخرين. ومعلوم أن الذي يفك العاني هي دولة المسلمين، وجيوش المسلمين، وذلك لتوافر أركان القدرة على القيام بهذا العمل العظيم، من حيث القوة العسكرية، والكفاءة الدبلوماسية، والإمكانيات المالية وغير ذلك، إضافة إلى احتمال وجود أسرى للكفار في قبضة المسلمين من حروب سابقة، فتتم حينئذ عملية تبادل الأسرى على وجه فيه عزة وكرامة.
ففي عام 392هـ، وهو العصر الذهبي للأندلس، حيث بلغت دولة الأندلس أوج قوتها وأقصى اتساعها وكان الحاحب المنصور لا ينقطع في الدفاع صيفاً ولا شتاءً عن بلاد الأندلس، وأنزل بأعدائهم أشد الهزائم. وذات مرة خرج لإحدى حروبه مع الإسبان وحقق النصر كعادته، عاد إلى قرطبة ووافق رجوعه صلاة العيد والناس في المصلى يكبرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه امرأة عجوز، وقالت له بقلب متفطر باك: يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا، قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير في حصن رباح، فإذا بالبطل العظيم الذي لم ينزل بعد من على ظهر جواده، والذي يعلم قدر المسئولية الملقاة على عاتقه تجاه أمة الإسلام، والذب عن حياض الأمة والدين، إذا به يلوي عنق فرسه مباشرة وينادي في جيشه ألا ينزل أحد من على فرسه، ثم ينطلق متوجها إلى حصن رباح ويظل يجاهدهم حتى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين ومنهم ولد العجوز.
واليوم وقد كثر الحديث عن الأسرى في سجون كيان يهود على أرض فلسطين المباركة، فإن علينا مسؤولية تبيان الحل الصحيح لهذه المعضلة التي أدخلت الحزن والغضب إلى عشرات الآلاف من بيوت المسلمين من أهل فلسطين لديهم أسرى في سجون كيان يهود وسجون السلطة الفلسطينية، ونحن ننظر بمنتهى الحزن والأسى إليهم دون وجود بارقة أمل لفكاكهم، بل إن الذين حفروا أنفاق خروجهم من الأسر بالملاعق، وتمكنوا من تحرير أنفسهم، اجتمعت عليهم قوى الشر كلها حتى أعادتهم إلى غياهب السجن لإكمال مدة الأحكام الجائرة التي صدرت بحقهم. فنقول بأن أسرى فلسطين يعانون من أسر مضاعف، كونهم يقبعون في سجون على أرض فلسطين، وكل أرض فلسطين مأسورة ومغصوبة، كما هو حال أهل فلسطين جميعا، وكذلك فإن المسجد الأقصى المبارك أسير مثلهم، والكل ينتظر الفكاك مما هو فيه من أسر.
وهنا لا بد من ذكر بعض الحقائق المتعلقة بملف أسرى فلسطين:
- إن السلطة الفلسطينية غير قادرة على تحرير أي أسير، وليست معنية أصلا بفكاك الأسرى بشكل جدي، بل إنها ساهمت في إعادة الأسرى الذين حرروا أنفسهم من سجن جلبوع، وفي قتل آخرين ممن خرجوا في عمليات تبادل الأسرى المذلة، أو انتهت مدد سجنهم وخرجوا ولكنهم ظلوا في نظر السلطات مطاردين، وغير مرحب بهم في الحياة المدنية، سواء في فلسطين أو في الدول المجاورة!
- إن عملية السلام المزعوم في فلسطين تشكل خذلانا صريحا للأسرى، كونها جعلتهم مدانين سياسيا فيما قدموه للقضية من تضحيات، وأنها ترسل رسالة إليهم وإلى من خلفهم من الغيورين على القضية أن قد أقفل الباب أمامكم لتحرير المغصوب من بلادكم.
- قطع الطريق على أي مسلم من خارج فلسطين يفكر في أن يضحي من أجل تحرير فلسطين الأسيرة والمسجد الأقصى الأسير.
- محو فكرة الحاجب المنصور من أذهان الجنود والضباط في جيوش المسلمين لضمان بقاء الحال على ما هو عليه من أسر للبلاد والعباد والمقدسات.
- قهر أمهات الأسرى وزوجاتهم وأخواتهم المكلومات بأسر أقاربهن في فلسطين، كما قهرت العجوز أم الأسير الأندلسي، مع فارق كبير بأنه لا يوجد حاجب منصور يساعدهن على تحرير أسراهن كما وجدت تلك العجوز.
أما وقد مضى على أسر بعض أسرى فلسطين أكثر من أربعين عاما، ولا تلوح في الأفق بوادر فكاكهم على أيدي أذناب أصحاب السبت في فلسطين وخارج فلسطين من المطبعين وغير المطبعين، ولن تنفعهم وزارة الأسرى ولا نادي الأسير ولا غير ذلك من إجراءات باهتة فاشلة، ولذلك فإن الحل الذي لا يختلف عليه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان، هو العمل الجاد مع العاملين الجادين والهادفين لإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، التي تقيم الدين، وتفك أسرى المسلمين، وتجبر خواطر الأمهات المكلومات والزوجات والأخوات المنكوبات بأسر أقربائهن في سجون الغاصبين والطواغيت. ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾. ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع