التبني من أرقى الأفكار وأعظمها إذ يشكل السوار الذي يحفظ ويحمي من الانفراط والتشتت. والإسلام جعل التبني خاصاً بصاحب الصلاحية والشأن سواء أكان خليفة أم أمير جماعة، فهو يتبنى ومن هم تحت إمرته وجب عليهم الطاعة والانقياد. ولما كانت جل أحكام وأفكار الإسلام قابلية الاختلاف فيها واردة ممكنة كان الفصل في هذا الاختلاف لصاحب الشأن والأمر سواء أكان أمير عامة أو أمير خاصة فما يتبناه هو المرجح وهو الملزم للجميع. وفي حالة التبني لا يجوز منازعة صاحب الصلاحية في الأمر، والإسلام حصر المنازعة في حالة واحدة هي رؤية الكفر البواح، مع إعطاء الإسلام حق المناقشة وإبداء الرأي.
ففي مسألة وقضية مقاتلة الذين ارتدوا بعد وفاة الرسول ﷺ اتخذ صاحب الشأن والأمر خليفة المسلمين أبو بكر الصديق قرار مقاتلة هؤلاء المرتدين وقد اختلف معه في الأمر الفاروق عمر لاختلاف فهم كل منهما عن الآخر في فهم واقع المرتدين، وعمر رضي الله عنه ناقش أبي بكر في المسألة، لكن بعد أن حسم أبو بكر الأمر أطاعه عمر وسار معه في الأمر ولم ينازعه لإدراك الفاروق أن منازعة الأمر أهله حرام، ولا يجوز عصيان أمره وواجب السير تحت إمرته رغم مخالفته في فهمه، فعمر لم يتشنج على رأيه رغم أنه كان يراه صوابا ولم يقل لن أطيعك لأن في ذلك معصية، بل سمع وأطاع وتابع.
وفي قضية أرض السواد في العراق، رأى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب أن لا يُقسّم هذه الأرض على المقاتلين بل يبقيها في يد أهلها يدفعون خراجها فتكون منفعتها للجميع وللأجيال القادمة، وقد عارضه في هذا الفهم العديد من الصحابة الذين رأوا أن الواجب تقسيمها على المقاتلين، ولما حسم عمر الأمر بعد مناقشة المعترضين أطاع هؤلاء الصحابة والتزموا ولم يتمردوا على الخليفة الفاروق بادعاء أن رأيهم هو الصواب ورأي وفهم عمر خطأ وأن هذا يخالف ما كان يقوم به الرسول من تقسيم الأرض المفتوحة على المقاتلين، وذلك إدراكا منهم لمفهوم التبني ولمفاهيم الطاعة والانقياد ووحدة الأمة، ولم يُروَ عن أحد من هؤلاء الصحابة أنه قال للخليفة عليك أن تأخذ برأيي لأنه الصواب وإلا لا أطيعك وأنا حِلٌّ من بيعتك لأنك تفعل حراما وإذا أطعتك وقعت في الإثم!
تسير الكتلة وتُحفظ بوحدة الرأي المتبنى من صاحب الأمر وبعدم منازعة الأمر أهله، فإذا حصل أن اجتهد أحد من أبناء الكتلة وتوصل لفهم يخالف رأى الأمير كان عليه مناقشة الأمر مع صاحب الأمر، وإذا حسم صاحب الصلاحية ما يتبناه بعد المناقشة كان واجبا على الشاب الطاعة والقبول ولا تجوز منازعته بحجج واهية كالقول رأيه خطأ وعليه أن يأخذ برأيي لأنه صواب وإذا لم يأخذ برأيي فلا أطيعه في هذا لأن طاعته منكر وحرام، أو القول إن رأي الأمير يخالف القطعي أو لم يقل به العلماء المعتبرون...إلخ.
إن صاحب أمر التبني سواء أكان خليفة أم أمير كتلة لا تجوز منازعته أو الخروج عليه أو العمل والسعي لإجباره على التنازل عما يراه من صواب والأخذ برأي من هم تحت مسؤوليته «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ». إن الطاعة والقبول والانقياد للأمير وما يتبنى واجب ويحفظ وحدة الجماعة، والتنازع منكر عظيم يمزق الشمل ويجلب الخراب، وشتان بين من يكون له سهم في العمار ومن يكون له سهم في الخراب، وشتان بين من يجعل الطاعة والانقياد سجية من سجاياه وبين من يحمل لواء التمرد والعصيان!
إن من أسوأ الأمور في هذا المضمار أن من يرى فهماً وأمراً مناقضاً لما يراه صاحب الأمر والشأن والتبني أن يعمل وفق سياسة خاطئة ومُنكرة وذميمة تتمثل في إما أن يأخذ صاحب الشأن برأيي أو أترك طاعته والعمل تحت إمرته ومسؤوليته! فهذه سياسة استعلاء وغرور تجلب على صاحبها الوزر والبوار. فيا أخي كما ترى رأيك صوابا يرى صاحب الأمر والشأن رأيه صوابا، والإسلام جعل الفصل في الأمر لصاحب الشأن. فمن هنا وجب التنازل عن رأيك واتباع رأي صاحب الأمر حفظا للوحدة وسير العمل، هكذا أوجب علينا الإسلام.
إن سمو ورقي النفسية جعلت عمر بن الخطاب يتنازل عن رأيه في قضية المرتدين اتباعا لرأي أبي بكر الصدّيق، وسمو ورقي نفسية بلال جعلته يتنازل عن رأيه وينقاد لرأي الخليفة الفاروق في مسألة أرض السواد في العراق. إن النفس الراقية والمميزة هي التي تتنازل عن فهمها للنصوص الشرعية وللواقع طاعة وانقياداً لصاحب الأمر ولفهمه ولتبنيه سواء أكان خليفة أم أمير جماعة، ففي ذلك النجاة وفي الإصرار على الرأي المخالف لرأي صاحب الشأن والأمر الضياع والهلاك.
نسأل الله أن يحفظنا ويثبتنا جميعا وأن يحفظ وحدة الكتلة وأن لا نكون من العصاة والناكثين، وأن يعجّل لنا بالنصر والتغيير فنبايع خليفة راشدياً يحكمنا بشرع الله وسنة رسوله ونكون له طائعين.
بقلم: الأستاذ عطية الجبارين - الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع