يعتبر وجود القيادة السياسية الواعية والمخلصة ضرورة ملحة في تبني قضايا الأمة المصيرية فهي بمثابة الرأس من الجسد تسمع وترى وتحكم على الوقائع استنادا لقاعدة ثابتة، فأهم ما يميزها هو المبدئية والمشروع السياسي الواضح.
وبغياب القيادة السياسية الواعية والمخلصة، كما هو الحال في ثورة الشام على سبيل المثال، فإن الكثير من التضحيات يتم تقديمها والكثير من الجهود يتم بذلها لكننا دوماً نحرم أنفسنا من قطاف ثمارها وجني محصولها!
لم تكن الأمّة في يوم من الأيام بخيلة أمام دينها ولا شحيحة البذل أمام كرامتها واستعادة سلطانها، ولم تكن المشكلة أبداً في عطاء الأمّة، إلا أنها تشعر بالإحباط لأنها ترى عدوّها يقطف ثمار تعبها فيصيبها من ذلك بعضٌ من اليأس دون أن تهتدي إلى حقيقةِ أنها تمنح عدوّها الحق بإهدار وتضييع تضحياتها لأنها تفتقد للقيادة السياسية الواعية القادرة على تحصيل الثمار ومنع بيعها في أسواق المؤامرات العالمية.
ففي درعا الشام مؤخرا قدم الثوار الصادقون شهداء وتضحيات وبطولات من الصبر والثبات ولكنْ سرعان ما جاءت اللجنة المركزية لتنثرها كالغبار في يوم عاصف، وذلك لأنّ الثوار لم يختاروا لأنفسهم قيادة سياسية واعية تتقي الله في نفسها وفيهم، فجاءَ من يخشى المواقف المبدئية، لتحويل نصر المجاهدين إلى القبول بشروط المفاوضات التي تعتبر في أحسن الأحوال إخراجا لنظام الإجرام ومن معه من مليشيات الحقد من مأزقهم الكبير.
بل إنّ مواقف لجنة المفاوضات أثرت سلبا على ثوار باقي بلدات حوران كجاسم وطفس وغيرها فلم يتمكنوا من نصرة درعا البلد كما يجب لأنّهم لم يروا من لجنة المفاوضات موقفاً واضحاً في ظل تشويشات اللجنة المركزية، علاوةً على أنّهم حتى لو تحركوا كلهم فليس هناك ما يدعو للتفاؤل لأنهم بغياب القيادة السياسية سيقدمون التضحيات ثم يعودون للمربع الأول لأن أعمالهم ستكون دفاعية محدودة يدفعون بها الخطر عن أنفسهم وأهلهم وبلداتهم!
وقد غاب أي عمل في الشمال لنصرة درعا - إلا بعض الأعمال الجماهيرية المحدودة - بسبب تبعية القيادة الحالية للضامن التركي الذي سلبها القرار، وحتى الأعمال المحدودة في حال حصولها ستزيد الناس يأساً عندما تكرس عجزنا عن تحقيق أهداف ثورتنا لأن القيادة الحالية المرتبطة ستبيع التضحيات على طاولة المفاوضات، حتى يصلوا بالناس إلى حالٍ من الابتعاد عن أي عمل خشية تقديم تضحيات مجانية تستنزف الطاقات بدون نتيجة.
نعم إنها الحقيقة التي يجب الاعتراف بها والداء الذي يجب الوقوف عليه لمعالجته دون تأخير، إنها اليوم ضرورة ملحّة وواجب شرعي أمام الله عز وجل؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وواجب الخروج من عباءة الذل ليس متوقفاً على عدّة وعتاد أو بذل وتضحيات وعطاء فقط، فالأمة كريمة وتصفع من ينتقص منها دوما وتفاجئ من يستهين بها؛ لذلك فإن هذا الواجب متوقف اليوم على تسليم الدفة لمن هو أهلٌ لها، فإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، وإن كانت القيادة حاملة اللواء منهزمة ومتخاذلة أو فاقدة للوعي السياسي أو متعاملة مع العدو انكسر الجيش وهلك القوم.
لقد أدرك هذه الحقيقة أبو سفيان وهو على الكفر حينها في غزوة أحد ولم يدركها ويعمل بها حتى الآن كثير من أهل الشام ومن العاملين على أرض الشام! فقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار قبل بدء المعركة يحرضهم بذلك على القتال: "يا بني عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه"، فهموا به وتواعدوه، وقالوا: "نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع". وذلك ما أراده أبو سفيان.
واليوم كلنا يرى أن اللواء بيد أجراء تركيا وأمريكا، فهل نتركهم ليقودونا إلى الحل السياسي الأمريكي، ثم الحكم بأنظمة الفساد العلمانية وتسليم الأعراض للسبي والرجال للقتل؟! أم هل نثق بهم بعد كل ما باعوه من تضحيات من فوق طاولة المفاوضات مرة ومن تحت تلك الطاولة مرات؟!
لقد رأينا جميعا ما آلت إليه ثورة الشام بعد أكثر من عشر سنوات من التضحيات، والسبب الرئيس معروف لكل واع؛ ألا وهو غياب القيادة السياسية الواعية والمخلصة والتي لو وجدت لحفظت التضحيات ولما وقعت في فخاخ أعداء الثورة، ولكن غياب القيادة السياسية أو عدم الاهتمام بإيجادها وإعطائها الأولوية جعل من أعداء الثورة يتلاعبون بها دون رادع، وتستطيع أن تقول إن غياب القيادة السياسية الواعية والمخلصة والمتبنية قضايا المسلمين المصيرية أضاع جميع الثورات ابتداء من تونس وليس انتهاء بمصر، فضاعت الثورات وضاعت بضياعها الجهود والتضحيات والآمال والآلام.
وبناء عليه فإن أي عمل على مستوى الأمة لا يتخذ قيادة سياسية مبدئية واعية قيادة له مصيره الفشل ولا أمل له في النجاح.
لقد جرّب المسلمون منذ هدم الخلافة وحتى هذا التاريخ الكثير من أنواع القيادات ذات العقلية الواقعية أو النظرة المشاعرية وتسلط عليهم كل فاجر وظالم، ولقد آن الأوان أن يتوكلوا على الله حق توكله وأن يتخذوا قيادة سياسية مبدئية تتخذ مشروع الإسلام وإقامة دولته دولة الخلافة على منهاج النبوة مشروعا، وعندها فقط نحقق أهدافنا ونرضي ربنا مع القيادة التي تتقي الله قولاً وعملا فتتوحد كل الجهود لتضع إمكانياتنا في سلة الله لتحقق الشرط الذي يريده الله ألا وهو ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ ليحقق لنا الوعد ألا وهو ﴿يَنصُرْكُمْ﴾.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع