التقيت أمس بأحد المثقفين فقال لي: "إني لا أتأمل من أحد خيراً، فكل الموجود ليس أهلاً للنصر، ولكني أعقد الأمل بالله".
ربما يظن الكثير أن هذا الكلام لا يعبر عن اليأس، ولكنه توصيف لواقع نعيشه، إلا أنني وقفت على هذا الكلام، ورأيت أنه يعكس قنوطاً ويأساً من التغيير، أما عبارته الأخيرة "الأمل بالله" فإنها لا تتجاوز اللسان، وذلك لأن الذي يرجو النصر من ربه عليه أن يرى في أمة الإسلام خيراً كثيراً.
فاليأس كما هو معلوم داء خطير، يجب الحذر منه، والترفع عن الوقوع فيه، وإذا أردنا أن نصف اليأس فيمكننا القول هو انتظار المجهول، والنظر للواقع السيئ على أنه قدرٌ محتوم؛ أو يمكن أن نعرف اليأس بأنه شعور بانسداد الأفق واستحالة التغيير، مما ينعكس سلباً على سلوك الإنسان فيجعله مُقعداً عن العمل، مكبل الفكر، مقيد الحركة، لا يرى إلا أنه لا بد من سنّة الاستبدال.
الحقيقة أن نتائج الشعور باليأس خطيرة على الأمم أكثر من خطرها على الأفراد، فإذا ما أُشيعت فكرة اليأس، أدى ذلك إلى استسلام الأمة أمام عدوها، وهذا أعلى ما يتمناه العدو ويهدف إليه، فإن بداية الانكسار والهزيمة تكون هزيمة نفسية، ثم يعقبها استسلام تام، ناهيك عن أن الشعور باليأس يقف عائقاً أمام أي حركة تغيير، لأن هذا الشعور يجعل الحكم بالفشل مسبقاً على أي عمل، هو السائد عند الجميع.
ولا فرق بين من يقول إنه يئس من الناس، أو أنه يئس من النصر، لأن فقدان الثقة بالأمة وبقدرتها على التغيير، هو ذاته فقدان الأمل بتحقيق النصر على الأعداء، وهذا لا يكون إلا عند من أضاع البوصلة، أو أنه لم يتصور غاية الطريق الذي يسلكه، فعندما تسلك طريقاً متأكداً من صحته، عالماً بعقباته، فهذا يجعلك تكمل المسير مهما اعترضتك من عقبات، ويجعلك لا تحيد عن الطريق أبداً، لأن أي انحراف عن الطريق هو ابتعاد عن الهدف.
وحتى نُسقط هذا الكلام على واقع الأمة الإسلامية، فإن طريق عزّة الأمة يكون بالثورة على هذه الأنظمة التي تتحكم بمصائر العباد، وتنهب خيرات البلاد، وهذا الطريق مليء بالتضحيات، وتتزاحم فيه العقبات، ولطالما هو طريق مزعج للطغاة، فيسعون جاهدين لزيادة عرقلة السائرين فيه، فتارة يلقون صخور قتلهم وسجونهم، وتارة يشقون طريقاً آخر مليئا بالورود والأموال ليحرفوا مسيرة الثائرين، ويبعدوهم عن تحقيق أهدافهم.
والشيء الوحيد الذي يجعل الثائرين يعودون أدراجهم، أو يقفون مكانهم في منتصف الطريق، هو الشعور بالعجز أمام تجاوز أية صخرة من صخور الطغاة، هذا الشعور هو اليأس بعينه، لذلك يحرص أعداء الأمة على تثبيت هذا الشعور، وبثه بين الناس ليقعدوهم عن الاستمرار في طريق ثورتهم، أو ليجعلوهم يعودون من حيث انطلقوا صفر اليدين، بعد تقديم آلاف التضحيات، دون أن يقطفوا ثمارها.
ولأن اليأس يفعل في الأمة كل هذه البلايا كان هذا محرماً على المسلمين، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. إن هذه الآية وإن وردت في سياق قصة سيدنا يوسف عليه السلام، إلا أنها جاءت تعقيباً على كلام يعقوب عليه السلام، وجاءت بصيغة العموم، فهي ليست خاصة بزمن أو مكان ما، بل عامة تشمل كل الأوقات والأزمان.
وكذلك قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾، والقنوط مرادف لليأس، والنهي عنه واضح في الآية الكريمة، ورحمة الله تشمل نصره لعباده، وبما أن الله وعد عباده المؤمنين العاملين بالنصر والتمكين، كان لزاماً عليهم ألا ييأسوا ولا يقنطوا من تأخر النصر، بل عليهم أن يكونوا واثقين من تحقيق وعد الله ثقة مطلقة، فالله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.
وأما عن اليأس من الناس، والقول بأن هذا الجيل لا أمل فيه، وعلينا أن نربي جيلاً آخر، وأن الناس في هذا الوقت لا أمل فيهم ولا خير يرجى منهم، فهذا ما نهى عنه النبي ﷺ، حيث قال: «إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ». رواه أبو داوود.
وأخيراً أود أن أذكّر بسنّة من سنن الله في خلقه، ألا وهي أن نصر الله سبحانه وتعالى، يأتي في أشدّ أوقات البؤس والخذلان والضعف، وهذا ما دلّت عليه قصص الأنبياء جميعا، وهذا ما عاشه المسلمون واقعاً، فهذا رسول الله ﷺ مُطارداً من قريش، يختبئ في الغار، ويغير طريق هجرته، ثم بعد أيام يقيم صرحاً للمسلمين في المدينة المنورة، وهذا نبي الله موسى عليه السلام ومن آمن معه، على شاطئ البحر قد أدركهم فرعون وجنوده، وهم بلا عدة ولا عتاد، فيشق الله لهم البحر ويهلك فرعون وجنوده...
فما على العاملين والثائرين لاقتلاع الطغاة، السائرين في طريق عزة أمتهم، المهتدين بنهج نبيهم ﷺ، إلا أن يكونوا على ثقة تامّة بأن الله سبحانه وتعالى يترصد للطغاة ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، وأنه منجزٌ وعده، ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وليحذروا كل الحذر أن يقعوا في مستنقع اليأس الذي يدفعهم إليه أعداؤهم، فإنه لا يجلب لهم إلا الدمار، ولن يعود عليهم إلا بالخيبة والخسران، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع