يقول رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».
وإن من أعظم المعالي التي تتصف بها أمة الإسلام هي الثبات على الحق وسلامة المنهج.
فالقائد لا يداجي ولا يحابي ولا يداهن، وأمة الإسلام هي الأمة القائدة، أو التي يفترض أن تكون كذلك، وبالتالي فلا تخاذل ولا تفاهات ولا تذبذب ولا تلون.
وفي زمن المحن والشدائد تجد الكثير من المسلمين من يبحث عن منهج السلامة ويحاول أن يبرر ذلك بادعاءات شرعية، بينما القلة القليلة هم من أتباع سلامة المنهج، وشتان بين هؤلاء وأولئك.
فأصحاب سلامة المنهج كالقمم الرواسي، وأولئك كالزئبق المتماهي.
ولعلك تجد أكثر أولئك المميعة هم من مشرعني المصلحة والمفسدة التابعة لأهوائهم والذين يلوون أعناق النصوص ويحمّلونها ما لا تحتمل والذين يتنازلون عن الثوابت بحجة حقن الدماء حينا والبعد عن المخاطر أحيانا، مع أن المسلّم به أن من أراد التمكين فسيختبر إن كان أهلا لذلك أم لا، قال عز من قائل: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
وقد سئل الشافعي رحمه الله أيهما خير للمرء أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى.
وفي القوانين الإلهية الثابتة أن العاقبة للمتقين والنصر حليف الثابتين الصابرين والعطر سيرة العاملين لنصرة الدين بينما المتزلفون والمميعة وأهل الأهواء من أصحاب منهج السلامة لا يصلون لمبتغاهم ولا يرتضيهم الباطل الذي يسايرونه وربما يكون أول المضحين بهم.
وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: "احرصوا على الموت توهب لكم الحياة".
ولعل الأمثلة على من آثر سلامة المنهج على منهج السلامة شاهدة في التاريخ وهي عند الأنبياء على وجه الخصوص أجلى وأبين.
فهذا إبراهيم عليه السلام كان من الممكن أن يتجنب استفزاز قومه الغلاظ وألا يستعلن بدعوته حفاظا على حياته خاصة وأنه في ريعان شبابه ويكتفي بوعظهم وإقناعهم فيسلَم بذلك ويبقى مقيما بينهم ولا يرمى في النار ولا يضطر لقطع الفيافي والقفار مهاجرا ولقومه هاجرا.
لقد ثبت إبراهيم عليه السلام وانتصرت دعوته لأنه اختار الثبات منهج الحق فاستحق أن يكون خليل الله وأن يخلد ذكره في العالمين ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
إن صحة المنهج لا توصل فقط لانتصار الدعوة وتمكينها وانتشارها وهيمنتها على ما سواها بل توصل للنجاة والفوز يوم الدين.
وهذا موسى عليه السلام سلك طريقا مملوءة بالصراع مع الباطل وأهله من طغاة الأرض في زمانه فرعون وهامان وجنودهما وحاشيتهما فما توانى ولا انكسرت عزيمته وصبر على المكاره وصبّر من اتبعه ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فمضى في معركته إلى منتهاها حتى إذا ما هلك فرعون وجنوده استعد لمرحلة أخرى من الجهاد ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾.
وهذا رسولنا الكريم ﷺ ثبت وصبر ولم يتنازل مع ضخامة العروض التي قدمت له بل كان في دعوته سافرا متحديا، وانتصرت دعوته بإقامة دولة الإسلام في المدينة المنورة. وها هو يقول في الحديبية: «فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ، أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ».
وأما اليوم وقد أكرمنا الله بثورة مباركة في الشام فقد ظهر من القوم من حديثي الأسنان من ألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق، متخذا السلامة منهجا يبرر تخاذله ويغري الآخرين بها، والتنازل طريقا فسوّق للمال السياسي القذر وشرعن الهدن والمفاوضات ورهن إمكانيات الثورة لأعدائها وأفتى بقتال كل من لا يضمن ركونه، حتى وصل بهم الحال لإدخال الصليب وأعوانه إلى بلاد المسلمين، وحمى دورياتهم، واستحوذ على الأموال، ونهب وسلب وشرعن المكوس والضرائب والقائمة تطول.
كل ذلك بدعوى الاستضعاف وبحجة عدم المقدرة، وبدعوى المصلحة الباطلة، وما ذلك إلا لكسر عزيمة أهل الشام، وهزيمة ثورتهم كرمى لعيون أعداء الدين وتغطية لتخاذلهم.
وراح بعضهم يخطب ود الغرب الكافر، وعلى رأسهم أمريكا حامية نظام الإجرام، وراح يلتقي بهم وينسق معهم. كل ذلك بحجة الحفاظ على ما تبقى من "محرر"، مع أنهم هم من باع وتاجر بكل ما سبق، ويسعون اليوم لهزيمة ما تبقّى.
بينما تجد في الطرف المقابل، يعتقل ويضيق عليه ويحارب، من آثر سلامة المنهج، بل يصفونه بالتشدد والجمود، يريدون منه أن يسير سيرهم، ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، بل حتى إنهم يعيّرونه بثباته وكأنه سبة ومذمة!
ولكن في نهاية المطاف الحق أبلج والباطل لجلج ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾. وليعلم المميعة أنهم لن يُرضوا أسيادهم ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾. وأن الباطل إلى زوال وأن الثورة تكون بمن صدق، ولا تزال تغربل الناس حتى يحصل التمايز بين الصادقين وأصحاب الدعاوى الباطلة، وحتى تعبر ثورة الشام بإذن الله إلى بر الأمان واصلة لغايتها بالصادقين، وإن النصر صبر ساعة.
إن ثورة خرجت تنادي (هي لله هي لله) لن تكون إلا لله وهي بإذن الله بكفالته ورعايته، وسنة التمحيص لتكون خالصة لله قائمة، وقد شهدنا على مر زمنها سقوط الكثير من أهل الباطل والزيغ والأهواء وما هي إلا مدة قصيرة حتى نشهد بزوغ فجر الإسلام بخلافة راشدة على منهاج النبوة، وعد الله وبشرى رسوله ﷺ. نسأل الله أن يثبتنا على المنهج السليم القويم وأن يستعملنا ولا يستبدلنا إنه ولي ذلك والقادر عليه والعاقبة للمتقين.
بقلم: الأستاذ سالم عامر (أبو عبيدة)
رأيك في الموضوع