3- المسافة بين شرعية الحاكم في النظم الديمقراطية وشرعية الحاكم في الإسلام.
إن واضعي مصطلح الدولة المدنية أو دولة المواطنة التي تستمد شرعيتَها من الشعب كانوا يعلمون حساسية المسلمين من العلمانية، لذا لم يستخدموا مصطلحَ العلمانية لوصفِ الدولة التي ينبغي أن يطالب بها الناس. ولهذا زيَّـنوه وجـمَّلوه لخداع الناسِ على أنه يعني دولة عصرية غير عسكرية ذات مؤسساتٍ حديثة متطورةٍ أساسُها المواطنة، يتساوى فيها المواطنون أمام القانون الذي يختارونه عبر ممثليهم دون تمييز على أساس العِـرق أو اللون أو الجنس أو المعتَـقد، وأنها دولة حريةٍ وعدالةٍ لا مكان فيها للقمع أو الظلم، وأنه لا يَفرضُ شخصٌ أو حزبٌ فيها رأيـَه على غيره، وأنه يجب فيها احترامُ الآخر، فصناديق الاقتراع هي الحَكَمُ بين جميع الناس. وإمعاناً في الخداع صار يُروَّج لهذه الدولة على أنها في بلاد المسلمين لا تصطدم مع عقائد الناس وعقيدةِ المسلمين خاصة، وذلك لأنها دولة مدنية لا تنحاز إلى أي دين.
ولكي يتضح الفرق بين الدولة الإسلامية التي فيها السيادةُ للشرع وبين الدولة المدنية المنبثقة عن الفكر الديمقراطي، والتي يعتبرها أصحابها أسمى وأرقى ما توصل إليه الفكر الإنساني الحديث من أنماط الحكم، ينبغي التنبيهُ إلى المطبَّـات والخُدع والألاعيب التالية التي انطلت بكل أسفٍ وبكل دهاءٍ ومكرٍ مِن أعداء الأمة على الشعوب المسلمة التي تنشد التحررَ من قبضة الغرب عبر بوابة المطالبة بالديمقراطية وبالحريات بدل الإسلام وشريعته في كل انتفاضاتها وثوراتها على مدى عقود، هذه الشعوب التي يتم إيهامها في كل مرة أنه آن أوانها، وأنها بلغت من الوعي ما أبهر العالم، وبلغت سقفاً يؤهلها للمطالبة بالديمقراطية الحقيقية، وأنها هي التي يجب الآن أن تقرر. ومن ذلك:
- خدعة أنه إذا تكَّمن الشعب من اختيار حاكمه فقد حُلت المشكلة واسترجع الشعب سيادته، بغض النظر عما يطبقه الحاكم من أنظمة! ومنها القول بأنْ لا تناقض بين مطلب الدولة الإسلامية ومطلب الدولة المدنية، كون الشعب مسلماً! بمعنى أنه بحسب المنتفضين من الإسلاميين خاصةً لو يُخلى بين الشعب وبين ما يريد، وهو ما سوف يتحقق في الدولة المدنية المزعومة أي دولة الحق والقانون والحريات بزعمهم، فحتماً سيختار الشعبُ المسلم الإسلامَ عبر الصناديق!! متناسين قولهم هم أنفسهم إن الغرب في جميع الحالات يرفض ولا يسمح أن يُطبق نظامُ الإسلام في بلاد المسلمين، سواء عبر الصناديق أو غيرها!
- خدعة المراهنة على نصرة المنصفين من الغربيين و"أحرار العالم" لثورات الشعوب المقهورة. ومِن ذلك التعويل على المنظمات الغربية غير الحكومية خاصةً في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات أو التابعة للأمم المتحدة لتضغط على النظم القائمة في بلاد المسلمين. وهذا ينم للأسف عن ضحالة الفكر وقلة الوعي السياسي والسذاجة المفرطة لدى الثائرين! فمَن هم أحرار العالم؟
- سذاجة القول بأن النظام القائم المتمثل في المؤسسة العسكرية الحاكمة يجب أن "يفهَمَ" ويدرك أن عليه تسليم السلطة للشعب! والحقيقة هي أن هذا القول يقفز بكل سذاجةٍ وحماقةٍ على حقيقة أن الغرب هو عدو الأمة وهو مَن يحكم حقيقةً ولكن من وراء ستار.
- خدعة تكريس واقع التقسيم المفروض غربياً في بلاد المسلمين بأيدي وحناجر الثائرين والمحتجين أنفسهم عبر الشعارات المرفوعة في الشوارع من خلال تسقيف المطالب وجعلها داخل إطار وسجن الدولة الوطنية وتحت سقفها، التي هي أصلاً من صنع الغرب المستعمِر نفسه. ومن ذلك أيضاً شيطنة الأيديولوجيا ونبذ ما يسمونه الاستقطاب الأيديولوجي بحجة أنه يفرق ولا يجمع! ونتيجة ذلك هي تحويلُ المطالب بجعل المعركة معركة تنمية ومحاربة للفساد مع حصره في سرقة المال العام وتبديد ثروة البلاد. ألا فليعلم الثائرون المنتفضون الرافضون للواقع الذين ينشدون التغيير أنه لا تنمية من دون تحرر، وأن لا تحرر من دون وعي سياسي، ولا وعي سياسي من دون نهضة فكرية على أساس فكر معين.
- أما مطلب إبعاد الجيش عن السياسة وإدخاله إلى الثكنات لكي تكون الدولةُ مدنيةً فإنه ينطوي دون شك على مغالطات عدة، فقد يؤسس عبر الهتافات والشعارات التي تُرفع في الساحات في أذهان السذج من المسلمين لفكرة استعداء الجيش بل واستعداء جميع حاملي السلاح من أفراد الأمة! والنتيجة هي حتماً قطع الطريق على التغيير بأيدي الثائرين أنفسهم، وهذا خطأ شنيع من تدبير المستعمِر، لأن الجيوش في الأمة هي التي تمتلك القوة التي تستخدمها السلطة الفعلية لتثبيت أركان نظام حكمها وإبقاء التبعية والنفوذ الأجنبي في البلد، وتحول في كل مرة دون التغيير الحقيقي أو الاستجابة لمطالب الشعب. وكثيراً ما تُرفع هذه الشعارات من طرف مندسين مزروعين بين صفوف المتظاهرين خصيصاً لذلك الغرض. فبدل كسب ولاء أفراد الجيوش بذكاء ودهاء وطلب النصرة منها لقطع الحبال مع العدو المستعمِر، قد يجري بكل حماقة وغباوةٍ استعداؤها بل وتوجيهُ سلاحها إلى صدور الثائرين!!
- أما الطامة الكبرى فهي دون شك خدعة أن الغرب لا يسمح بالمجاهرة صراحةً عبر الشعارات بمطلب تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين. فكأنـهم بهذا القول يصرحون أنه لا تصح المطالبةُ بشيء مما لا يحظى برضا وموافقة الغرب! ومن ذلك عدم إدراك خسران النصر والتأييد من الله تعالى ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
يُستنبط من كل ما سبق أن الفرقَ شاسع بين شرعية الحاكم في الإسلام وشرعيته في النظم الديمقراطية، فهل يكفي أن يكون الحاكم منتخَباً من الشعب ليكون شرعياً؟! في الدولة المدنية نعم. ولكن في دولة الإسلام بالتأكيد لا! نعم مُهِمٌّ ومطلوبٌ شرعاً أن يصل الحاكمُ إلى سدة الحكم برضا واختيارٍ من الأمة، والأهم هو أن يُحكم بشريعة الإسلام بوصفها وحياً من الله تعالى دون غيرها، ولو كره الكافرون! ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. نعم إن الغرب المجرم يرفض بشدة أن يطبق الإسلامُ في بلاد المسلمين، لأن ذلك سيقطع نفوذَه فيها، بل وسيصل الأمر حتماً عندما تقوم دولةُ الإسلام، التي هي كيان سياسي بشري لا قداسة فيه لأحد، إلى إزالة سيطرة الغرب الرأسمالي على كافة شعوب الأرض بتحرير سائر البلاد والعباد في أرجاء المعمورة من شروره. ولكن يجب على المسلمين أولاً أن يدركوا عظمةَ مشروعهم وأن ذلك لن يتم إلا بنصر وتأييد من الله تعالى، فهو نعم المولى ونعم النصير، ولن يتجسد إلا بعودة شريعة الله إلى الحكم في نظام الخلافة التي ستستأنف فوراً حملَ رسالةِ الإسلام إلى كافة الشعوب بالدعوة والدعاية، وعن طريق إزالة كيانات الظلم والطغيان بالقوة المادية. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
رأيك في الموضوع