من دلائل "الغيبوبة الفكرية والسياسية" التي يعيش فيها كثير من أبناء الأمة الإسلامية اليومَ عدة أمور منها:
- اعتبار منظمة الأمم المتحدة جهةً "محايدة" تقف على مسافة واحدة من جميع شعوب الأرض.
- النظرة القائلة بأنه لا توجد أية مؤامرةٍ من الغرب على الأمة الإسلامية، ولا على بلاد المسلمين.
- تسقيف الانتماء والولاء والهوية في بلاد المسلمين بالفكرة الوطنية الوضيعة، أي بالانتماء الجغرافي والقطرية الضيقة. وهو ما يعني عدمَ تفعيل عوامل القوة الحقيقية في الأمة الإسلامية، المستهدَفة أصلاً بهذه الشَّرذمة وبهذا التقسيم والتشتيت!
- خدعة بل زلة اعتبار الديمقراطية "فضاءً شفافاً" يسع الجميع، وأنها عالمية لا تحمل أية وجهة نظر وخالية من أيِّ محتوى عقدي أو موقف أيديولوجي!! ومن ذلك اعتبار الدولة المدنية المنبثقة عن الفكر الديمقراطي الحل الأنجع ونمط الحكم الأمثل لتسيير الشأن العام وتحقيق العدل والمساواة والتعايش وتفادي الصدام والصراع بين الناس على أساس المعتقَد.
وفي هذه العجالة لن نتطرق سوى إلى الأخيرة من هذه الخدع والمطبات، أعني زلة وقوع المسلمين في متاهات "النسبية" التي لا يتقرر فيها الحق من الباطل، كما هو الأمر في عقل الغرب الذي ضلَّ عن سواء السبيل عندما اعتنق العلمانية وعقيدةَ الحل الوسط التي لا تحق حقّاً ولا تبطل باطلاً.
وبما أنه قد ثبت أن هذا المسلك مدحوض ومردود من جهة العقل، فإنه بالرجوع أيضاً إلى تنزيل الحكيم الحميد نجد أن لفظة "دين الحق" التي تحمل معنىً عظيماً والتي وردت أربع مراتٍ في القرآن الكريم، تنسف مفهومَ العلمانية وفكرةَ الحل الوسط ومعها الدولة المدنية من أساسها. وقد جاء معناها بغير هذا اللفظ في مواضع شتى من القرآن. علماً أن مقتضى توحيد الخالق عز وجل إنما هو تحقيق مفهوم الحاكمية الذي هو تحكيم الشريعة في حياة البشر على مستوى الفرد والمجتمع أي على مستوى أنظمة الحكم في المجتمعات، وهو ما جاء به محمد e والرسلُ من قبله، وخلافه الاعتراض على أحكام الشرع الحنيف وما نزل من الوحي في تسيير الشأن العام وأمور المجتمع وهو الشرك بأصنافه.
قال تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: 29]، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[التوبة: 33]، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾[الفتح: 28]، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9].
فـ"دين الحق" المذكور في جميع هذه الآيات إنما هو دين الإسلام الذي جاء به محمد e، وهو بالمختصر أن يؤمن الناس بالله وبرسوله ويحكّموا شريعتَه في حياتهم، وإلا فهم كفار أو مشركون!! وقد كان من ردَّات الفعل على القمع الرهيب والأوضاع السيئة التي وُضعت فيها البلاد الإسلامية بعدما انفرط عقد الأمة بهدم الخلافة، حيث أُسند الأمر في أغلب تلك الأقطار إلى العسكر يحكمونها بغير الإسلام من وراء ستارٍ بتدبير من الغرب عبر عملاء السياسة في الواجهة، أنْ باتت الشعوبُ الإسلامية تنتفض في كل حين على أوضاعها مطالبةً بإبعاد العسكر عن السياسة من خلال شعار "دولة مدنية لا عسكرية" كما هو في حراك الجزائر وغيرها اليوم، تماماً كما بات يُرفع مطلبُ "دولة مدنية لا دينية" عند أتباع التيار العلماني من أبناء الأمة والمروجين منهم للدولة المدنية من عواصم الغرب، اصطفافاً فكرياً وسياسياً ومصلحياً مع الأقوى، وهو التيار المدعوم بكل الطرق والوسائل من الغرب، وتقليداً لما جرى في تلك البلاد من إقصاء دور الكنيسة ورجالها عن الشأن العام أو تقليصه، وتقديس العلم على حساب الدين المحرف أصلاً. فمن تداعيات ذلك أن وقع أبناءُ الأمة الإسلامية في زلة اعتبار الديمقراطية "فضاءً شفافاً" يسع الجميع، وأنها عالمية لا تحمل أية وجهة نظر، وأنها خالية من أيِّ معتقد أو محتوى أيديولوجي! بينما هي نفسُها في الحقيقة موقف أيديولوجي أو منبثقةٌ عن أيديولوجيا سياسية اسمها العلمانية، التي تتجسد على الأرض من خلال الدولة المدنية المنبثقة عن أصلها الذي هو الفكرة العلمانية وفصل الدين عن الحياة! ومن ذلك بطبيعة الحال الوقوع في شَرَك اعتبار الدولة المدنية أيضاً مطلباً لا يتناقض مع الإسلام بل هو عند المضبوعين بحضارة الغرب عين ما يتطلبه الإسلام، كونه يحقق التعايش بين البشر جميعاً بعيداً عن الصراع والنزاع الأيديولوجي الذي أنهك البشرية برأيهم عبر العصور!! متجاهلين أن من مقتضيات ذلك ومستلزماته ترك الإسلام ونظامه أي حتمية اعتبار الإسلام ديناً كهنوتياً لا دخل له بالسياسة، وحتمية إبعاده عن الحكم وعن الشأن العام، كما هو حال النصرانية في الغرب، وهو ما يخالف الإسلام دينَ الحقِّ في أصله. وهذا هو ما يفسر على أرض الواقع تغييـبَه هذه الأيام من الشعارات المطالِـبة بالتغيير في البلاد الإسلامية المنتفِضة، التي أهلها مسلمون والمحكومة من الغرب بواسطة العملاء. وهو ما يعني إقصاء الإسلام وإخراجَه من معادلة الصراع تماماً! فمن عجائب ما فعله الغزو الفكري والثقافي في بلاد المسلمين وما فعله الغربُ بعقول المسلمين أن المنتفضين والمحتجين على الأوضاع السيئة في بلادهم، والثائرين على الأنظمة العميلة المرتبطة بالمستعمِر، هذه الأنظمة التي أوجدها الغرب نفسُه ويدعمها ويحرص على بقائها، لا يعبـِّرون عن مطالبهم بما يحقق لهم حقيقةَ مرادهم!! بمعنى أن الشعارات التي يرفعونها لا تحمل في معانيها ما ينقذهم حقيقةً ولا ما يخرجهم مما هم فيه!! ففي حراك الجزائر مثلاً كما في ثورة السودان الأخيرة، خرج الناس ينشدون دولةً لا يُقمع فيها المرء ولا تُهضم فيها حقوقُه، أي يبتغون مجتمعاً يسود فيه الحق والعدل، وهو ما يسمونه دولة الحق والعدل والقانون والمساواة. كما خرجوا يطالبون بالحرية والديمقراطية، ولكن ليست المطلقة التي في الغرب كما يقولون، بل تلك التي لا تتعارض مع ثوابت الأمة، التي منها الإسلام!! ولكنها تكفل برأيهم الحقَّ في التعبير وإبداء الرأي وعدم تكميم الأفواه والمشاركة السياسية والتداول على السلطة وحق اختيار الحاكم وغير ذلك مما تتمتع به "الشعوب الحرة" في الدول المستقلة عبر العالم، معتبرين أن كل ذلك إنما تكفله الدولة المدنية، التي تقف على مسافة واحدة من جميع الناس!! ولكن هل حقيقةً ستنتهي مآسي أهل الجزائر أو أهل السودان أو غيرهم بتسليم الحكم للمدنيين أو بقدوم الجمهورية الثانية أو الدولة المدنية، التي يطالب بها أهلُ البلاد من خلال حراكهم المستمر منذ أشهر، في تجاهل تام لتفعيل كونهم مسلمين، الذي لا يعني في الحقيقة سوى التصاقهم بدينهم وتحكيم شريعة ربهم ولو كَرِه الكافرون، الذي هو شرط إسلامهم وإيمانهم بنص القرآن بل مقتضاه قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾، بل هو أيضاً شرط عزِّهم وقوتهم وتقدمهم وسرُّ تفوقهم وكل انتصاراتهم.
إننا نؤكد من هذا المنبر أن معنى التغيير الذي تنشده الأمة وترتضيه حقيقةً إنما هو أن تُستأنف الحياة الإسلامية بكل أبعادها في بلاد المسلمين. ولن يكون ذلك إلا في دولة تقوم على أساس الإسلام بوصفه عقيدةً سياسيةً أي نظاماً يحكم الحياة، يعالج جميعَ مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً مهما تعددت وتعقدت، متخطياً العرق والجنس والموطنَ واللون وكل الانتماءات، وهي دولة الخلافة على منهاج النبوة. وهل في الإسلام وحكمِ الإسلام إلا العدل والإنصاف والرفعةُ وإحقاق الحق وإبطال الباطل وسمو الأخلاق وترسيخُ قيم الرحمة والرفق والعفو والتسامح والمساواة أمام قانون الدولة وحفظُ مصالح الناس ومحاسبة الحكام ومنع الفساد وتفجيرُ الطاقات في كل الاتجاهات والإبداعُ في كل المجالات وحسنُ الرعاية واستغلالِ الثروات وحقُّ المسلمين في اختيار مَن يحكمهم بشريعة ربهم، وفوق ذلك وقبله تحقيقُ غاية الغايات ألا وهي نوال رضوان الله تعالى في الدار الآخرة.
وعليه فأية ثورة أو حراك أو انتفاضة شعبية في بلاد المسلمين تحمل ولو شيئاً من بذور تلك الأسقام السالفة الذكر إنما هي مخفقة طبيعياً منذ البداية في تحقيق ما يصبو إليه المسلمون. بل قد تزيد الأمر تعقيداً وتأخيراً وتتكرر بعدها المآسي، وذلك بسبب دهاء المستعمِر سياسياً وقلة وعي المسلمين بعدم تفعيل ما به انتصر أسلافُهم وسادوا في معترَك حياتهم، أي بسبب إبعاد دينهم الذي هو مرتكز وعيهم وقوتهم وعزهم عن السياسة وعن ساحة الصراع والمعركة! ثم أيُّ معنىً بعد ذلك سيكون لتكبيرهم في صلواتهم وحجهم ونحرهم وإطالةِ ركوعهم وسجودهم وهم خاضعون في كافة شؤون حياتهم لعدوهم، وتبعٌ للغرب الكافر المستعمِر عبر حكامهم في كل مسائلهم؟! أليس من مقتضيات إسلامهم وإيمانهم برب العزة أن يكونوا هم في هذا العالم قادةً وسادةً؟
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع