يظن أكثر النّاس أن رجل الدولة هو الحاكم أو من يباشر شؤون الحكم في الدولة، فيطلقون هذا الوصف على رئيس الدولة والوزراء وأمثالهم، ويعتبرون أن غير هؤلاء لا يتمتّعون بوصف رجل الدولة. ويصنّفون الناس إلى صنفين: رجل الدولة، وابن الشعب، ويُدخلون جميع الموظفين والمستخدمين في الدولة في الصف الثاني.
إن هذا الفهم عند النّاس لمعنى رجل الدولة فهم خاطئ، فالحاكم قد يكون رجل دولة وقد لا يكون، وابن الشعب قد يكون رجل دولة ولو لم يمارس أي عمل من أعمال الحاكم، فقد يكون فلاحاً في أرضه أو عاملاً في مصنع أو تاجراً أو معلماً ويكون رجل دولة.
إن رجل الدولة هو القائد السياسي المبدع، وهو كل رجل يتمتع بعقلية الحكم، وهو يستطيع إدارة شؤون الدولة ومعالجة المشاكل والتحكم في العلاقات الخاصة والعامة. هذا هو رجل الدولة، وهو قد يوجد بين الناس ولا يكون حاكماً ولا يمارس شيئاً من أعمال الحكم…
إن الأمة التي ينبت فيها رجل الدولة هي الأمة التي تتمتع في حياتها العملية وفي علاقاتها الداخلية والخارجية بأفكار الحكم، ويتملكها إحساس بمسؤولياتها عن جميع الناس، حتى من هم خارج حدودها، في أن ترعى شؤونهم وتعالج مشاكلهم، أو يستولي عليها إحساس بقيمتها الذاتية بين الشعوب، فتندفع لأن تقتعد مكاناً سامياً في العالم، بل تسعى لأن تكون في مركز القيادة في العالم أجمع.
هذه هي التربة التي ينبت فيها رجل الدولة وعقلية الحكم وهي تتلخص في ثلاث نقاط هي:
أولاً: أن تملك عملياً في حياتها وجهة نظر في الحياة تكون فكرة كلية.
ثانياً: أن تملك عملياً وجهة نظر خاصة في الحياة تحقق السعادة فعلاً.
ثالثاً: حضارة خاصة ترفع الآخرين بها لأن يعيشوا في أرقى الأوضاع وأحسن أشكال العيش وأعلى نواحي الفكر مع القيم الرفيعة والاطمئنان الدائم.
هذه النقاط الثلاث بالطبع متوفرة عند المسلمين في طيّات وأدمغة العلماء، وتحتاج إلى نقل إلى الواقع المحسوس إلى الناحية العملية، وأن الذي ينقلها إلى الواقع هو رجل الدولة. ذلك أن رجل الدولة هو القائد السياسي المبدع، إذ إن الفكر السياسي لا بد له من قيادة سياسية حتى يوجد، إذ وجوده في الكتب وأدمغة العلماء لا قيمة له ولا يعتبر وجوداً حقيقياً، وحتى يكون هناك قيادة سياسية لا بد ممن يعي الفكر السياسي بشيءٍ من الإبداع، ويباشر استعماله في منأى عن التكلف، ويكون الإبداع لديه سجية من السجايا...
والمسلمون حتى يستطيعوا النهوض يجب أن يلتمسوا السبيل المؤدي إلى إيجاد رجل الدولة، والإكثار من وجوده، ولا يَتِمُّ ذلك إلاّ بأن يتثقفوا بالثقافة السياسية المبنيّة على العقيدة الإسلامية، أي على الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة. ومتى عمّت هذه الثقافة مجموع المسلمين، وصار لها واقع، فإن التربة التي تُنجب رجل الدولة تكون قد وُجدت، فيبدأ الإنبات الخصب لرجل الدولة، ومتى وجد هؤلاء الرجال فقد وجدت النهضة، وبدأ التغيير أو كاد.
هذا هو رجل الدولة، وهذا هو الوضع أو المناخ الذي يوجد فيه، وليس رجل الدولة هو الحاكم بالضرورة، وإنما هو القائد السياسي المبدع الذي ينبت في الأمة أولاً، لا الذي يأتي بالانتخابات، أو يُنصَّب في انقلاب عسكري، أو يرفعه ماله الوفير إلى سدة الحكم، وهو لا يعي على ما يجري حوله، ولا يرى ما وراء أرنبة أنفه.
عن كتاب أفكار سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع