إذا كان أهل الحل والعقد هم من يستطيعون أن يعقدوا للحاكم حكمه على الناس، وهم الذين يحلون ما انعقد للحاكم من حكم، وترضى جمهرة الناس بما عقدوا، وهذا ما يفهم من المعنى اللغوي، ومن واقع المجتمعات القبلية عند مجيء الإسلام، فإنهم والحالة هذه كانوا يمثلون الناس، وهم قياداتهم الطبيعية بما فيهم القوى الموجودة فيهم بمعنى أنهم كانوا أهل القوة، وهم بذلك جمعوا بين تمثيل عامة الناس، وبين كونهم أهل القوة فيهم، وقد كان هؤلاء هم زعماء القبائل، وأهل الرأي فيها.
وهؤلاء من قصدهم رسول الله r طلبا للنصرة، أي طلبا للحكم بعد إسلامهم، مع ملاحظة توفر المنعة في القبيلة، حيث إن بعض القبائل لا تتوفر فيها المنعة مع توفر القوة، وهذا ما تحقق له في المدينة المنورة من زعماء الأوس والخزرج الذين كانوا ممثلين لأهل المدينة وأهل القوة فيها، فكان هؤلاء القادة هم "أهل الحل والعقد".
وبالعودة إلى مفهوم "أهل الحل والعقد" في دولة الخلافة الراشدة، يتبين أن من كان يعقد للخليفة "بيعة الانعقاد" هم كبار الصحابة، فقد كانوا هم القيادات الفعلية الذين ارتضى المسلمون أن يكونوا ممثلين لهم بناء على تقواهم وصحبتهم لرسول الله r، وانشغالهم بقضاء مصالح الناس، والحرص عليهم وعلمهم بالأحكام الشرعية بغض النظر عن انتمائهم القبلي أو كونهم قادة فعليين لجيوش الفتح، وحصر هؤلاء في الموجودين في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وقد كان انعقاد الخلافة في زمنهم يسير بسهولة وسلاسة، فقد كان برضاهم يتحقق رضا الناس، باعتبارهم القيادات الطبيعية للناس، والذين ارتضتهم جمهرة الناس ممثلين لهم. ومن هنا برز مفهوم "أهل الحل والعقد" الذين تنعقد بهم الخلافة أي بيعة الانعقاد. وقد كانت قوتهم تكمن في رضا الجيوش عنهم، ونزولهم عند رأيهم، كما أن عامة الناس كانوا ينْزلون عند رأيهم.
أما في العصر الحالي فهناك جيوش حرفية ونظامية تحتاج ما لم تكن تحتاجه في الماضي من أسلحة وآلات عسكرية كالدبابات والطائرات والمدافع والصواريخ، وأجهزة الاتصالات، وغيرها كثير. وهذا ما لا يستطيع أن يوفره الأفراد، أو حتى التنظيمات ما لم تكن تابعة لدولة ما. بعكس ما كانت تحتاجه الجيوش في العصور القديمة من سيف وترس ورمح وفرس على أكثر تقدير. وهذا ما كان يستطيع توفيره الأفراد والجماعات والقبائل، بل كان موجودا بشكل طبيعي. هذا بالإضافة إلى أن النظام الرأسمالي الذي سيطر على العالم في هذا العصر جعل الجيوش في بلاده مفصولة عن ممثلي الناس وأصحاب الرأي فيهم. وجعل ممثلي الناس هم من ينتخبون للمجالس النيابية؛ ليقوموا بمهمة التشريع ومحاسبة الحكام، وسموهم بالسلطة التشريعية. وأوكلوا مهمة بناء الجيوش وتحريكها، وإعلان الحرب لما يسمى بالسلطة التنفيذية، والتي يتم أيضا انتخابها انتخابا، ولا سلطة على الجيش للمجالس النيابية والتي تعتبر ممثلة لجمهرة الناس. وبذلك فصلوا القوة الفعلية للدولة وهي الجيش عن ممثلي الناس وأصحاب الرأي فيهم.
وللحقيقة نقول: إن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية بيد أصحاب رؤوس الأموال الذين يختفون وراء هذه السلطات، فهم الذين يديرون البلاد سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وقضائيا، ويتحكمون بوسائل الإعلام في كل البلاد الغربية، وعلى رأسها أمريكا الدولة الأولى في العالم.
أما في البلاد التابعة للغرب، ومنها بلاد المسلمين فإنه أيضا تم فصل الجيوش عن الناس وممثليهم، وجعلت قياداتها إما بيد الحاكم العميل، أو بيد الدولة الكبرى المتبوعة مباشرة، وخير مثال على ذلك هو الجيش المصري الذي يتبع أمريكا مباشرة. وبذلك تم الفصل عمليا بين القوى وبين ممثلي الناس، لذلك أصبح طلب النصرة محصورا في الجيوش، فهم القوى الفعلية، والنصرة تتم من خلال قيام الجيش الذي أعطى النصرة باستعادة سلطان الأمة، وإعادته إلى ممثلي الأمة؛ ليغقدوا للخليفة عقد الخلافة، أي بيعة الانعقاد، في القطر الذي تم فيه العمل، وتتوفر فيه إمكانية إقامة الدولة.
وبالتدقيق في كل ما مضى نخلص إلى أن "أهل الحل والعقد" الذين كانوا موجودين في العصر الجاهلي، وعند مجيء الإسلام، أو في زمن الخلافة الراشدة، وبالمعنى نفسه الذي كان موجودا آنذاك لم يعد موجودا الآن، فممثلو الناس من غير العسكريين لا يمثلون الجيوش، لا في الدول التابعة ولا في الدول المتبوعة. فقد فصلت الجيوش عن عامة الناس وعن ممثلي الأمة. مع ملاحظة أن من يدعون أنهم ممثلون للناس أو لنقل: أكثرهم، ليسوا قيادات طبيعية للناس. بل هم ممثلون للأنظمة عند الناس، وليسوا ممثلين للناس عند الأنظمة، وهم قيادات مصطنعة، اصطنعتها الأنظمة على عين بصيرة، وخصوصا المجالس النيابية، وما يسمى بمجالس الشورى في بعض الدول التابعة، وكذلك ما تسمى بالمعارضة النظامية التي هي جزء أصيل في تكوين الأنظمة الحالية.
لذلك لا بد من تحري القيادات الطبيعية في الأمة من أصحاب الرأي، سواء أكانوا في العشائر أو في قادة الفكر والرأي، وإن كانوا من الصف الثاني - إن جاز التعبير - ممن يعتبرون ممثلين حقيقيين لجمهرة الناس، لأن هؤلاء الذين صنعتهم الأنظمة ممثلين عن الناس سيزولون بزوال هذه الأنظمة، ولن يعودوا بمجرد أن يعرف الناس حقيقتهم؛ ليعود مفهوم أهل الحل والعقد إلى حقيقته ناصعا صافيا كما كان. من حيث إنهم، أي "أهل الحل والعقد"، هم ممثلو جمهرة الناس، وأصحاب الرأي فيهم، وقياداتهم الطبيعية، والذين يبلغون مكانتهم هذه بتقواهم، وعلمهم، وسداد رأيهم، وإخلاصهم للأمة ودينها، وحرصهم على خدمة الناس، والذين لا يخشون في الله لومة لائم.
وعند قيام الخلافة قريبا إن شاء الله، تقوم بتشكيل مجلس الأمة، وتترك للناس اختيار ممثليهم من خلال الانتخابات، فيكون هؤلاء هم من يقال عنهم: "أهل الحل والعقد".
وعلى ضوء ما تقدم، فإن العمل الآن يكون بالعمل في الجيوش لأخذ نصرتهم، ليقوم الجيش باستعادة سلطان الأمة المسلوب، وإعادته للأمة ليقوم ممثلو الأمة الحقيقيون، والذين سبق إعدادهم بالإضافة إلى أهل القوة في الجيش بعقد الخلافة للخليفة الأول في العهد الثاني "بيعة الانعقاد".
أما عن دور الحزب فهو صاحب الدور الرئيس في طلب النصرة، وإيجاد ممثلي الأمة، وإعادة دورهم لهم، وهو الذي صنع كل هذه الترتيبات من ألفها إلى يائها؛ لتعود خلافة على منهاج النبوة قريبا إن شاء الله تعالى.
اللهم كلل مسعانا بالنجاح، وكحل عيوننا قريبا بخلافة على منهاج النبوة. إنك ربي ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم: إسماعيل عمير – أبو البراء
رأيك في الموضوع