فرض الله سبحانه وتعالى علينا فرائض كثيرة، ولم تكن الفرائض مجرد طقوس تؤدى، بقدر ما أنها موجهة لسلوك الإنسان المسلم وضابطة لأعماله، فقد قال رسول الله ﷺ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ»، فهذه الصلاة تلزم المؤمن الامتناع عن ارتكاب المنكرات، وهكذا باقي العبادات.
وحيث إننا ما زلنا نتفيأ ظلال موسم الحج، يجب أن لا يغيب عن أذهاننا الدروس والعِبر المستوحاة من هذه الفريضة، إذ لا بد من فهم فرائض الإسلام وتطبيق الدروس المستفادة منها في واقع الحياة، خاصة فيما يتعلق بما افترضه الله علينا من وجوب إنكار المنكر وتغييره، وإسقاط النظام العلماني المجرم الذي لم يدع جريمة إلا وارتكبها خلال سنيّ الثورة الاثنتي عشرة.
وقبل الحديث عن هذه الدروس لا بد أن نذكر أن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بالأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة وهي أيام أداء فريضة الحج، أقسم سبحانه بها وبالفجر وبالليل وبالشفع والوتر، ليثبت حقيقة لطالما غفل عنها المرجفون الخائفون من سطوة المجرمين، فبعد هذا القسم العظيم، جاء الله عز وجل بأمثلة عن أعظم الطغاة والجبابرة وأخبرنا عن الصفة المشتركة لهم، ألا وهي الطغيان في البلاد والزيادة في الإفساد والفساد، ثم يخبرنا بالنتيجة التي شملتهم جميعا بأن صبّ عليهم العذاب؛ فمنهم من دمرهم ومنهم من أغرقهم، ليأتي بعد ذلك بجواب القسم العظيم ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، فهو سبحانه يترصد لكل طاغية مفسد، فيمهله حتى إذا أخذه لم يفلته.
وفي طريق مواجهة الظالمين والمفسدين لا بد أن يتحلى المؤمنون العاملون بصفة التسليم المطلق لأمر الله، فليس للمؤمن خيار في قبول أو رد أمر الله، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾. وهذا ما كانت عليه هاجر زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: جاءَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ بِأُمِّ إِسْمَاعِيل وَبابنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِي تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المسْجِدِ، وَلَيْسَ بمكَّةَ يَؤْمئذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوضَعَهَمَا هُنَاكَ، وَوضَع عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيه تَمرٌ، وسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فتَبِعتْهُ أُمُّ إِسْماعِيل فَقَالَتْ: يَا إِبْراهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهَذا الْوادِي الَّذِي ليْسَ فِيهِ أَنيسٌ ولاَ شَيءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلكَ مِراراً، وَجَعَلَ لاَ يلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَه: آللَّهُ أَمركَ بِهذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَت: إِذاً لاَ يُضَيِّعُنا، ثُمَّ رجعتْ.
وهكذا يكون الاستسلام لأمر الله، فهو يترافق مع الثقة التامة أن تنفيذ أوامر الله لن يضيعنا، بل فيه النجاة كل النجاة، كيف لا وهو بيده كل شيء، فمنه الأمر وعليه التكلان، فهو الذي أمرنا أن لا نركن إلى الظالمين، وهذا يقتضي قطع الارتباط بالداعمين الذين ثبت يقينا أنهم في صف نظام القتل والإجرام، ولا يقولن أحدٌ كيف نكفي أنفسنا، وكيف سنكمل ثورتنا؟! بل يجب أن نستسلم لأمر الله موقنين بأنه لن يضيعنا.
أليس في مشهد الذبح عبرة أخرى تؤكد وجوب الاستسلام التام لأمر الله؟ انظر كيف أن نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام لم يتوانيا لحظة في تنفيذ أمر الله حيث جاء في كتاب الله: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
وهذا جزاء كل من أحسن تنفيذ أمر الله وثبت عليه، فلن يضيعه الله.
أما الشيطان وأساليبه وتبريراته فهي كثيرة، وما على أهل الشام إلا أن يرموه وأدواته بحجر الالتزام بأمر الله، والشيطان صفة لكل من حاد عن أمر الله سواء أكان من الجن أو الإنس، فكما كانت شعيرة الحج تقتضي رمي الجمرات، اقتداء بفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام عند سعيه في تنفيذ ما أُمر به، فكذلك يجب أن يفعل من يسعى لإسقاط النظام ملتزما أمر الله، فيرمي كل من يدعوه لحرف طريقه، أو ليفرط بدماء الشهداء، أو من يدعوه للوقوف في منتصف الطريق، فكل هذه دعوات شيطانية يجب الابتعاد عنها والتمسك بأحكام رب العالمين.
وأخيراً فإن اجتماع المسلمين على صعيد واحد، يلبون نداء ربهم، يسعون السعي ذاته، ويطوفون الطواف ذاته، يكبرون ويهللون لرب واحد، يجتمعون من كل حدب وصوب، لباسهم واحد، لا فرق بين أبيض وأسود ولا عربي وأعجمي، هذا المشهد من الوحدة والاجتماع، يرسل لأهل الشام المبتغين إسقاط النظام أن يهبوا استجابة لدينهم، ونصرة لأعراضهم، وتنفيذاً لأمر ربهم، معتصمين بحبله جميعاً، فيجتمعون على المشروع الذي يرضي ربهم، وكل منهم يأخذ دوره، واثقين بأن الله لن يخذلهم، فيستمدون منه العون والمدد، فهو القاهر فوق عباده، ﴿وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ﴾.
رأيك في الموضوع