تمر الأمة الإسلامية اليوم بأسوأ فترات حياتها، فهي الآن بدون دولة، ضعيفة مستذلة، قد تسلطت عليها أفكار العَلمانية وأشرار الناس من أذنابها، وما لذلك من سبب إلا البعد عن أحكام الله التي أنزلها لنا هداية ورشادا وإخراجا لنا من الظلمات إلى النور، وقد كان هذا البعد عن أحكام الله في أول أمره مقصورا على سقوط دولة الإسلام، لكنه بدأ الآن يتفاقم حتى تغلغل في بيوتنا وعلى مستوى أفراد أُسَرِنا وأبنائنا عقليا ونفسيا، وأدى إلى الحيلولة دون سبيل العودة إلى نبع الهداية ومعدن التقوى. من هنا كانت حملتنا في القسم النسائي لحزب التحرير في ولاية تونس تحت عنوان "العلمانية تمكر بأبنائنا.. وخلاصنا بأيدينا".
نعم، لقد مَكرت العلمانية مكرا إدّاً يكاد لا يطيقه المسلمون، وخلاصنا منها بأيدينا إيمانا منا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو المتكفل برد مكر الماكرين وكيد الكائدين.
في الحقيقة لم تكن البلاد الإسلامية قبل هذا العصر تعرف العَلمانية لأن خاصية المجتمع الإسلامي لم تكن نفس خاصية المجتمع الغربي الذي فرض واقعه ظهور هذه البلية على البلاد والعباد، فكان تاريخ إدخالها على شمال أفريقيا بالتحديد في الجزائر؛ إذ ألغيت الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي لها سنة 1830م، ثم في مصر، يلي ذلك تونس حين أدخل القانون الفرنسي سنة 1906م، ثم في المغرب سنة 1913م، دون أن نغفل عن دخولها في معظم أفريقيا والهند وتركيا والعراق والشام وإندونيسيا وانتشار الأحزاب العَلمانية والنزعات الطائفية وحزب البعث وعبَثِه والأحزاب القومية والنزَعات الفرعونية والطورانية والأمازيغية...إلخ
فلا ريب أن العَلمانية بسَطت الأرضية في إدخال قوانينها إلى بلادنا حيث أغرت المضبوعين بالغرب وذوي النفوس الضعيفة والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب والنساء وقامت بتربية المروجين لها في محاضنها في البلدان الغربية، وإعطائهم ألقابا علمية مثل درجة الدكتوراه أو درجة الأستاذية والخبراء، وأقيمت لهؤلاء الأشخاص دعاية مكثفة في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون لكي يظهروهم في ثوب العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرات الواسعة والنُّخَب، حتى يكون كلامهم مقبولا لدى الناس، وبذلك يتمكنون من التلبيس على الكثير منهم وليمارسوا تحريف الإسلام وتزييفه في نفوس الطبقة المثقفة على أوسع نطاق ويرددوا دعاوى العَلمانية على مسامع أبنائنا.
إننا اليوم نرى أبواق العَلمانية وجرأتها على أحكام الدين والإكثار من الطعن في بعض القضايا الفرعية وإشغال الناشئة بذلك والدخول في معارك وهمية حول هذه القضايا لإشغال أبنائنا وصرفهم عن القيام بدورهم الحقيقي في النهوض.
فكم من منبر صوّر لنا تمييع المشايخ والعلماء وطلاب العلم والدعاة في كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية على أنهم طبقة منحرفة خلقيا، وأنهم طلاب دنيا من مال ومناصب ونساء حتى لا يستمع الشباب إليهم، ولا يثقوا في كلامهم وبذلك تخلو الساحة للعلمانيين في بث دعواهم؟!
وكم ركزوا في حديثهم على المسائل الخلافية وتضخيم ذلك الأمر حتى يُخيّل للشباب أن الدين كله اختلافات وخلافات وأنه لا اتفاق على شيء حتى بين علماء الدين، ما يوقع في النفس أنْ لا يقين في الدين ولا مجزوم به، ما يعني انصراف الناشئة عنه؟!
وكم أنشأوا من المدارس والجامعات والمراكز الثقافية والنوادي والجمعيات الأجنبية، التي تكون خاضعة لإشراف الدول العَلمانية التي أنشأتها في ديار المسلمين، حيث تعمل جاهدة على توهـين صلة الشاب بدينه إلى أقصى حد ممكن، في الوقت نفسه الذي تقوم فيه بنشر الفكر العَلماني على أوسع نطاق، وخاصة في الدراسات الاجتماعية والفلسفية والنفسية؟!
وكم اتكأوا بضلالة وانحراف على بعض القواعد الشرعية في غير محلها محاولة لترويج قضايا الفكر العلماني، كقاعدة "ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين" و"الضرورات تبيح المحظورات"، متخذين من هذه القواعد وأشباهها تُكأة في تذويب الإسلام وتمييعه في نفوس شباب المسلمين؟!
وكم اتخذوا هذه القواعد في جانب التربية ناقلين مقلّدين لجوانب الحياة في النظم الاقتصادية والسياسية السائدة في عالم الكفار إلى بلاد المسلمين من غير أن نتفطن إلى خطورة هذه الأمور؟!
وفي ظل هذه الأوضاع بالغة السوء التي يتربي عليها أبناؤنا ويتعلمون، فإن على الآباء والأمهات واجبا كبيرا وعظيما ألا وهو العمل على هدم هذه الأفكار وتغيير هذا الواقع الأليم الذي يكاد يحرف الأمة كلها بعيدا عن الإسلام.
والأمهات جميعهن اليوم مطالبات ببذل كل الجهد من الوقت والنفس والسعي لتحقيق ذلك، وإن كان العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله وأصحاب القوة والشوكة عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم لأنهم في الحقيقة هم القادة ومنهم ورثة الأنبياء وغيرهم من الناس تبع لهم.
فلا خروج للمسلمين من هذا الواقع الأليم إلا بفكر يتبعه عمل من أجل غاية في جو جماعي، فالفكر والعلم الذي لا يتبعه عمل لا يغير من الواقع شيئا. والعمل على غير فكر وبصيرة وجماعة يُفسد أكثر مما يُصلِح. فالعمل الجماعي هو أساس الوَحدة والاعتصام والخلاص بعد علمنا بمخاطر العَلمانية التي تتهدد الناشئة وتتربص بهم.
وفي الختام نذكّر بحجم المأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية عامة وأهل تونس خاصة ولا يصدنا عن القيام بهذا الدور ما نلقى من عنت ومشقة ومن صدود من بعض الناس ومن تضييق وحرب من الحكام وأذناب العلمانية والعملاء. إذ لا بد من العمل بهذا الدين لأجل هذا الدين وإزالة الأتربة لتحصين أبنائنا بما يحبه الله ورسوله قولا وعملا، ولا بد من تحمل التبعات في سبيل ذلك وإعلان المعركة الفكرية على كل من حارب الله ورسوله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولا أحسب أني بذلك قد تحدثت عن واجب المرأة المسلمة كأم وربة بيت كما ينبغي، ولكن يكفي أن تكون تذكرة للخلاص لنا جميعا، لعل الله ينفعنا بها. هذه الرسالة لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير النساء المسلمات عامة والأمهات خاصة بحقيقة هذه الحملة، ومصدر هذه الدعوة في تبيان خطر العَلمانية وآثارها السامة القاتلة على تربية أبنائنا حتى نسارع في التحصّن منها ومقاومتها وفضح دعْوتها ودُعَاتها، والقضاء عليها بإذن الله حتى نكون خير أمة أخرجت للناس، وتعود لنا العزة كما كانت. سائلين الله من فضله التوفيق والإرشاد والخلاص والحمد لله في الأولى والآخرة.
بقلم: الأستاذة خديجة بن احْميدة – ولاية تونس
رأيك في الموضوع