بالكاد تتمكن من دفن أولادها، والسير في جنازاتهم، فحمم القذائف فوق رأسها لا تتوقف، ولا عزاء لأنها نذرت أولادها منذ حملتهم وهناً على وهن شهداء، وكلما حاولت أن تلملم جراحاتها، وتحبس الدمع في عينيها، وتمسح التراب عن وجوه أطفالها، تمنّي نفسها بالقادم لعله يكون أفضل. يداهمها العدو بهمجية ووحشية أشد وأفظع من المرات السابقة، هادماً كل آمالها، والحقيقة أنني غير قادر على تحديد بالضبط المرة السابقة من كثرة ما تعرضت له غزة من جرائم، كل جريمة أنكى من أختها. بالرغم من ذلك فغزة باتت الوجه الآخر للعزة، لأنها تأبى الذل والانكسار، وتأبى الانحناء والخضوع، ومستعدة لدفع الثمن مهما كان باهظاً، تتمثل قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
أما كيان يهود المجرم فهو مأزوم في نواحٍ متعددة، فمن جانب يعاني من أزمات داخلية تتعلق في البنية المجتمعية والتفكك بين الفئات السكانية المختلفة، وتعثر النظام السياسي وعدم استقرار الحكومات المتعاقبة، بسبب هشاشة الائتلافات والتحالفات السياسية المشكلة لتلك الحكومات، فقد تعاقبت مؤخراً خمس حكومات في غضون سنتين، ومتوقع الدخول في انتخابات للمرة السادسة، سيما أن أزمة القضاء لا زالت لم تنته، فضلاً عن نتائج جولة الصراع مع غزة، تضاف إلى الأزمات الداخلية العقدة المصيرية لدى الكيان، وهي عقدة وجوده غير الشرعي في هذه الأرض، والذي يحاول جاهداً التخلص منها باتجاهين متوازيين؛ الاتجاه الأول في ممارسة ألاعيب السياسة وتطبيع علاقاته مع المحيط الإقليمي المتواطئ، والاتجاه الثاني يتمثل في إبراز تفوقه العسكري وتقدمه التقني، والذي يجعله دائم العيش تحت وطأة التهديد الأمني إلى حد الهوس، ومتأهباً لضرب أي قوة يمكن أن تظهر في المنطقة قد تشكل تهديداً له ولمصالحه، وهو ما يفسر على سبيل المثال، موقف الكيان من إيران، وتذمره الكبير من سعي أمريكا لعقد اتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي، إلى درجة محاولة التفلت من القبضة الأمريكية، والبحث عمن يدعمه في توجهاته أوروبياً وبالتحديد بريطانيا، وتنفيذه العديد من الهجمات السيبرانية، واستهداف العلماء الإيرانيين، كذلك استهداف الوجود العسكري الإيراني بشكل متكرر في سوريا. والواضح رغم كل هذه المحاولات أن أمريكا لم تعطه الضوء الأخضر لأية مواجهة عسكرية مع إيران، قد تقلب الترتيبات الأمريكية للمنطقة بشكل كامل، لا سيما في وجود قضايا أكبر وأهم متعلقة بالصراع الدولي، ومكانة أمريكا الدولية، متمثلة بالأزمة مع الصين، والحرب الأوكرانية الروسية، وقرب الانتخابات الرئاسية الداخلية، وقد مارست ضغوطات قاسية على حكومة نتنياهو الحالية، من أبرزها اتفاق المصالحة بين النظام السعودي والنظام الإيراني، الذي بدد أحلام نتنياهو في توجيه ضربة عسكرية لإيران، والاكتفاء باستهداف أذرع إيران في المنطقة كما يعتبرها كيان يهود، والمتمثلة بفصائل المقاومة في فلسطين وغيرها، فكان العدوان الأخير على غزة الذي بدأ بعملية اغتيال جبانة وغادرة لثلاثة من قيادات سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
في هذا السياق ارتكب كيان يهود جريمته البشعة، كعادته في الهروب من أزماته الداخلية، وبالنظر إلى سلوك هذا الكيان منذ أكثر من 75 سنة، منذ نكبة فلسطين في 14 أيار/مايو 1948، والتي نستذكرها في هذه الأيام، يظهر مدى عدوانية الكيان ودمويته، ليتضح لكل ذي عقل وبصر، جريمة الوثوق به، والسعي إلى عقد أي اتفاق معه، فهم قومٌ بهتٌ لا عهدٌ لهم ولا ميثاق.
اللافت في هذا العدوان الغادر والجبان، كعادة كل عدوان وكل جريمة ينفذها الكيان بسفك دماء أهل فلسطين، يكون لأنظمة العار والشنار يدٌ في التآمر والتخطيط لتلك الجرائم، ويصدق فيهم قول الشاعر عمر أبو ريشة: "لا يُلام الذئبُ في عدوانه *** إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم".
فقد تناقلت الأنباء، أن القادة الشهداء كانوا ضمن وفد ينوي التوجه للقاء مسؤولين في جهاز المخابرات المصرية، الذي بدوره أوصل رسائل التطمين لهم بعدم وجود أي تحرك عدواني لكيان يهود، ما دفع الرجال للظهور والمبيت في منازلهم تلك الليلة، لوداع عوائلهم قبل سفرهم، الأمر الذي يؤكد تواطؤ هذه الأنظمة ومشاركتها في سفك دماء أهل فلسطين، وحراسة يهود وإطالة عمر كيانهم واحتلاله للأرض المباركة، وفي الوقت نفسه يؤكد فداحة الخطأ بالركون إليهم، وطلب وساطتهم، وهي حقيقة شرعية يصدقها الواقع، نضعها بين يدي إخواننا في فصائل المقاومة لأننا نحب الخير لهم.
وإن كان من حديث عن وحدة الفصائل، ووحدة الساحات، فالواجب أن يرتقي الخطاب للمطالبة بوحدة الأمة، فالأمة تملك القوة الحقيقية القادرة على قمع وردع بل خلع كيان الشر من جذوره.
أليس قمة التضليل أن يصور ما تقوم به الأنظمة من دعم مضبوط ومحسوب بدقة للفصائل، بأنه أقصى ما يمكن أن تقدمه الأمة لفلسطين وأهلها، بينما في الأمة جيوش جرارة رابضة في ثكناتها، تملك من السلاح والعتاد ما يمكنها من إنهاء معاناة الأرض المباركة في جولة حاسمة واحدة؟!
إن تكرار تلك الجرائم لن يتوقف، وهو باق ما بقي هذا الكيان، وفي المقابل فإن تكرار التآمر والخذلان لن يتوقف وهو باق ما بقيت تلك الأنظمة المهترئة والجبانة الحاكمة في بلاد المسلمين، وإن إيقاف الجريمة المتكررة بحق فلسطين وأهلها، لا يكون إلا بزوال هذا الكيان المجرم الخبيث، والذي لا يكون إلا بزوال الدرع الواقي والحارس الأمين له؛ أنظمة العمالة والخيانة، وإلا سنبقى نتلقى الضربات، ونعدّ الجرائم فينا ونبكي الشهداء، الأمر الذي يجعلنا لا نكل ولا نمل من طرق الآذان لرفع الوعي وتشكيل رأي عام لدى جماهير الأمة نحو استنصار الجيوش ومطالبتهم بواجبهم، كما لن نكل ولن نمل من طرق أبواب الجيوش في بلاد المسلمين حتى يهيئ الله منهم أنصاراً لدينه، ينخرطون في عملية تغيير جذري تسقط أنظمة التآمر والخذلان، وتخوض معركة تحرير فلسطين.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع