سألت امرأة من أحْمَسَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قائلة: "مَا بقاؤنا على هَذَا الْأَمر الصَّالح الَّذِي جَاءَ الله بِهِ بعد الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: بقاؤكم عَلَيْهِ مَا استقامت بِهِ أئمتكم. قَالَت: وَمَا الْأَئِمَّة؟ قَالَ: أما كَانَ لقَوْمك رؤوسٌ وأشرافٌ يأمرونهم فيطيعونهم؟ قَالَت: بلَى، قَالَ: فهم أُولَئِكَ على النَّاس". رواه البخاري
من المعروف أن الناس يتبعون في حياتهم سادتهم وكبراءهم وقادتهم، وهم الذين يتولون رعاية شؤونهم، ويقودونهم نحو شط الأمان وبر السلامة، وهذه طبيعة المجتمعات، فلا يستقيم حال أمة إلا بقيادة تأخذ بيدها إلى الخير وتجنبها الشر، وخير القادة على الإطلاق نبينا محمد ﷺ خاطبه الله سبحانه بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
ومن علامات استقامة المجتمع استقامة الأئمة والحكام، ولهذا لا غرابة أن يكون من أوائل السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ،...» متفقٌ عَلَيْهِ.
وشدد الإسلام على وجوب الرعاية الحسنة فقال e: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وأكد ﷺ على ذلك بدعائه عندما قال: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» رواه مسلم
والرفق ليس أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون؛ بل أن تسير بهم حسب أمر الله تعالى وأمر رسوله ﷺ مع سلوك أقرب السبل وأيسرها، لذلك كان قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لِمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر".
وهذا ما أكده عامل عمر بن الخطاب على حمص عمير بن سعد رضي الله عنهما عندما قال: "فَلا يَزَالُ الإِسْلامُ مَنِيعاً مَا اشْتَدَّ السُّلْطَانُ، وَلَيْسَ شِدَّةُ السُّلْطَانِ قَتْلا بِالسَّيْفِ وَلا ضَرْباً بِالسَّوْطِ وَلَكِنْ قَضَاءً بِالْحَقِّ وَأُخِذاً بِالْعَدْل".
وقد اهتم القرآن اهتماما كبيرا بهذا الجانب وأكد عليه عندما ساق لنا تحذير الله سبحانه وتعالى لنبي الله داوود عليه السلام بقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.
فنبي الله داوود عليه السلام أمره الله أن يحكم بالحق الذي أنزله عليه ولا يتبع الهوى، ففي اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله الذي نتيجته عذاب شديد يوم القيامة، وهذه طامة عظيمة تحل بمن لا يحكم بما أنزل الله؛ وإن كانت مقوماته الفردية من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات على أفضل ما يكون من التزام بأوامر الله ونواهيه، فطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين تقوم على طاعة المحكومين للحاكم والتزام الحاكم بالحكم بما أنزل الله.
نبي الله داوود عليه السلام كان من خير العابدين، قال رسول الله ﷺ عن عبادته: «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُودَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُودَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً». متفقٌ عليه، وكان نبيا مجاهدا مقاتلا، قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾، وكان يجهز للمجاهدين السلاح، ويصنع لهم الدروع بشكل محكم، قال تعالى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾، وكان يسبح الله بصوت شجي، فأمر الله الجبال والطير أن يسبحوا معه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾، ومن جمال صوته كانت الطير تقف في السماء لتسمع، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾.
وكان النبي ﷺ يقول لصاحب الصوت الشجي: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُودَ» متفق عليه.
كل هذه الأمور العظيمة في شخصية نبي الله داوود عليه السلام لم تشفع له عندما تولى الحكم، من تهديد الله له وتوعده إياه إن لم يحكم بالحق بالعذاب الشديد يوم القيامة.
من هنا يجب أن نقيس الحكام من جهة الحكم بما أنزل الله وعدم الالتفات إلى مقوماتهم كأفراد، وعدم الانخداع بتضليلهم من خلال تسويق أنفسهم في تلاوتهم للقرآن ونشيدهم وصلاتهم أمام الناس.
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يقل للناس عندما تولى الخلافة: أنا صاحب رسول الله ﷺ وأنا من أنفق كل ماله في سبيل الله، بل قال لهم: "أيها الناس إني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيرِكم فإن أحسنتُ فأَعِينوني وإن أسأتُ فقوِّموني، أَطيعوني ما أَطعتُ اللهَ ورسولَه فإذا عصيتُ اللهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم"، ومثل ذلك فعل عمر رضي الله عنه؛ لم يقل للناس: أنا من جاء القرآن يؤيد كلامي، ولم يقل أنا من قال فيه رسول الله ﷺ: «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ»، بل قال له أعرابي: "لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا" فقال عمر رضي الله عنه: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد ﷺ من يقَوِّم عمر بسيفه"، وقال للمرأة التي حاسبته في موضوع المهور: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
على هذه الأسس يكون صلاح الحكام، ولكن مع الأسف رأينا من قضى عمره وهو يعمل للإسلام ويتعرض للأذى والسجن والتعذيب، وبعضهم جاهد في سبيل الله وعندما تولى الحكم صار ينادي بتقاسم السلطة ويتبنى الديمقراطية وينادي بالتعددية والدولة المدنية والتعاطي مع ما يسمى بالمواثيق الدولية والانخراط في المجتمع الدولي وقوانينه، وهؤلاء ينطبق عليهم القول "تمخض الجبل فولد فأرا"، وتناسى هؤلاء أن عليهم أن يثبتوا على الحق ويلتزموا بمشروع الأمة وهو الخلافة على منهاج النبوة، وأنهم يجب أن يثبتوا أمام امتحان التمكين، ولنا في قصة نبي الله موسى مع بني إسرائيل الموعظة الحسنة، قال تعالى: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.
بقلم: د. نبيل الحلبي - غزة الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع