يهل علينا رمضان الثاني بعد المئة بدون خلافة وخليفة، وفي ظل انهزام وتبعية للدول الاستعمارية. ماذا جرى لخير أمة أخرجت للناس؟! أقلّ تعدادها أم خارت قواها حتى باتت لا تقدر أن ترد عنها هجمة صليبية حديثة متحلية بلباس العلمانية والديمقراطية، وأصبحت لا تقدر أن تكر كرة على عدوها أو ترمي رمية دموية، فتحطم بها جماجم قوى الشر الهمجية، وتدحر المعتدين وتطهر الديار من براثن الرأسمالية الصليبية؟! ما سر هزيمتها وتبعيتها لعدوها هادم دولتها وممزق لحمتها وقاتل أبنائها وناهب ثرواتها؟!
فعندما يصيب الأمة ما أصابها، والكل يحس بمصابها، ولكن لا يعرف دواءها، يبدأ كل من لديه إحساس مرهف بالتفكير والبحث عن سبب تأخرها، يبحث في تاريخها وتراثها، كيف كانت وإلى أين صارت؟ كانت أعظم أمة لديها أكبر دولة وأرقى حضارة وأوسع ثقافة وأعمق فكرة، سادت القارات الثلاث ثلاث مئة وألف سنة، يبحث سر نهضتها، وسبب تعثرها وسقوطها، حتى يهتدي إلى مبدئها، فيكتشف التغشيات التي طرأت على فكرتها والغموض الذي اكتنفها، فيبلورها وينقيها حتى تعود صافية نقية، ويبحث عن طريقتها فيكتشفها صحيحة مستقيمة، ويدرك أهمية ربط بعضها ببعض، ربطا محكما فلا تنفكان ولا تفترقان. فيشكل كتلة حزبية مبدئية حتى تنمو وتتطور وتتوسع فتصبح حركة تحريرية متكاملة. وها هي ما شاء الله ولا قوة إلا بالله لم تعد على أحد خافية، تدعو لخلافة راشدة على منهاج النبوة بإذن الله ظاهرة. فمن صدق الله وأخلص وأراد الخلاص لأمة الإسلام، فما عليه إلا اللحاق بها انخراطا وتأييدا ونصرة حتى يسقط عنه إثم القعود وإثم أن لا تكون في عنقه بيعة ولا يموت ميتة جاهلية.
﴿شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَـصُمهُ﴾ فقد بارك الله في هذا الشهر بأن أنزل فيه القرآن، وكأنه فرض فيه الصوم شكرا له سبحانه على أن أكرمنا بهذا القرآن، الذي هو هدى للناس، فوجب على من آمن به أن يحمله للناس جميعا لينقذهم من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، فلا يجوز له أن يكتفي بالصوم ولا يحمل القرآن ويدعو لتطبيقه كما حمله الذي أنزل عليه أول مرة، رسول الله ﷺ، حمله للناس جميعا، وأقام دولته وطبق أحكامه البينة التي تفرق بين الحق والباطل، فكان عمله قدوة للأنام. فبعد هذا كيف يقبل بأن تطبق عليه أحكام غير أحكامه وتسن قوانين غير قوانينه ويقبل بسيادة الشعب الموهومة ويرفض سيادة الشرع المفروضة كفرض الصوم والصلاة والزكاة والحج؟!
وهو شهر الجهاد والفتوحات والانتصارات، وليكن كذلك؛ فكأنه سبحانه أراد أن تكون أول معركة للمسلمين فيه، وقد فرض فيه الصوم في السنة الثانية مع معركة بدر الكبرى، ليلفت نظر المسلمين أن الصيام والجهاد لا يفترقان، فلا يعني الصوم الامتناع عن الطعام والشراب فحسب، وإنما قرن بعبادة كبيرة وهي الجهاد في سبيل الله. وقد فهم المسلمون ذلك فلم يتوقفوا في شهر رمضان عن الجهاد وتحقيق الانتصارات والفتوحات العظام، فكانت فيه معركة بدر، وفتح مكة، ومعركة القادسية، وفتح الأندلس، ومعركة الزلاقة، وعين جالوت، وحطين وعقبها تحرير بيت المقدس، ومعركة بلاط الشهداء قرب باريس، وفتح عمورية وأنقرة، فهو ليس شهر نوم وتحضير الطعام في النهار وسهر بالليل وأكل وشراب ومرح ومشاهدة مسلسلات وأفلام... بل كان صوما وجهادا في النهار وصلاة وقياما بالليل وقراءة قرآن.
فالأوامر الشرعية القاطعة في القرآن والأحاديث الشريفة في الصحاح والسيرة النبوية وإجماع الصحابة وهي مصادر شرعية لا تتحقق لأمة غير أمة الإسلام، بجانب الحقائق التاريخية لأمة عريقة، كلها تنطق بوجوب العمل لإقامة الخلافة وتطبيق الإسلام. وطبيعة المبدأ تفرض على صاحبه ألا يبقيه حبيسا في داخله، فيكافح ضد كل الاتجاهات ويحارب كافة الأفكار، وتفرض عليه ألا يقبل بسيادة غيره من المبادئ والنظم، ولا يطبق عليه نظام غير نظامه ولا يخضع لقوانين من غير مصادره. ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم﴾.
وواقع المسلمين الحالي يتطلب منهم العمل لإقامة الخلافة، ولا نهضة ولا خلاص لهم إلا بها، ويذكّر كل من لديه قلب سليم وألقى السمع وهو شهيد بأن يتحرك لينقذ بها الأمة ولا سبيل غير هذه السبيل. بل واجب عليهم أن ينقذوا البشرية جمعاء فهي تصطلي بنار الرأسمالية الجائرة، فقد حمّلت الأمة أمانة تحرير العالم من الكفر والجور والضلال واستعباد العباد بعضهم بعضا وأكل أموالهم بالباطل باسم حرية التملك ورميهم في مستنقع الرذيلة باسم الحرية الشخصية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ﴿وَكَذلِكَ جَعَلناكُم أُمَّةً وَّسَطاً لِّتَکُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
شهر رمضان تخيم عليه الأجواء الإيمانية فتسوده التقوى والروابط الروحانية، تقوي صلة المسلم بربه، فهي الحكمة من الصيام ﴿كُتِبَ عَلَيکُمُ الصِّيَامُ کَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِکُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾. فهذه الأجواء تحفزه للقيام بالأعمال الصالحة، وتدعوه لأن يبدأ بالأولى فالأولى في سلم القيم، وإقامة الخلافة من أولى الأولويات، إذ يترتب عليها تطبيق سائر الأحكام وتقام بها كافة الواجبات وتحمى بها الأموال والأعراض والديار. وعلينا أن لا نكل ولا نمل من تذكير المسلمين بأولى الأولويات، وقد تطبع المسلمون على حب الخير والمسؤولية عن الغير ومساعدة المحتاج والتضحية في سبيل تحقيق الغايات، فعندما تتولى أمرهم قيادة مخلصة واعية فإنهم سيحققون المعجزات.
فالأمة الإسلامية أمة أصيلة معطاءة، فمهما لحقها من جوع وتعب وضعف وعسف فإنها تنهض وتزمجر وتتحرك كالسيل الجارف. فقد أصابها ما أصابها على عهد الصليبيين والمغول، فنهضت وعادت أعظم دولة، ورغم ما أصابها الآن فإنها لم تمت فقد هزمت الدول العظمى في ميادين القتال، وكادت أن تطيح بأمريكا وبدول الغرب بثورتها على الأنظمة العميلة. لقد ارتفع الوعي لديها وإن لم يكتمل بعد ولكنه سيكتمل، لأنها خير أمة أخرجت للناس، ولأنها صاحبة أقوم مبدأ، ولأنها خرّجت أوعى حزب، فهي منصورة بإذن الله.
رأيك في الموضوع