قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾. وقال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
لقد استفاض علماء التفسير في شرح هاتين الآيتين بشكل لا يدع مجالا للغموض، لا في مصير المستضعفين من المؤمنين العاملين وفق طريقة التغيير الشرعية بأنهم سيُستخلفون ويمكنون ويأمنون، ولا في مصير المستكبرين الذين كانوا يستضعفونهم ويسخرون منهم ويضطهدونهم بأنهم سيهلكون ويُدمَّر مُلكُهم، وسيصيبهم الذل والصغار على أيدي أولئكم المستضعفين، وذلك بوعد الله وأمره. وتلك سنة الله سبحانه وتعالى في المستضعفين والمستكبرين.
وملخص ما قاله المفسرون في الآية الأولى:
- التفسير الميسر: "ونريد أن نتفضل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض، ونجعلهم قادةً في الخير ودعاةً إليه، ونجعلهم يرثون الأرض بعد هلاك فرعون وقومه".
- السعدي: "بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف، ونهلك من قاومهم، ونخذل من ناوأهم. ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ في الدين، ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ للأرض، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة".
- الوسيط لطنطاوي: "ثم بين سبحانه ما اقتضته إرادته وحكمته، من تنفيذ وعيده في القوم الظالمين، مهما احتاطوا وحذروا، ومن إنقاذه للمظلومين بعد أن أصابهم من الظلم ما أصابهم".
- البغوي: "﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ قادة في الخير يقتدى بهم، وقال قتادة: ولاة وملوكا".
- ابن كثير: "وقد فعل تعالى ذلك بهم، ونفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدلّلـه وتتفداه، وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن".
- القرطبي: "أي نتفضل عليهم وننعم، ونجعلهم أئمة، قال ابن عباس: قادةً في الخير ولاة وملوكا، وقال مجاهد: دعاةً إلى الخير".
- الطبري: "ومعنى الكلام أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها من بني إسرائيل فِرَقاً، يستضعِف طائفة منهم ﴿وَ﴾ نَحْنُ ﴿نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ﴾ استضعفهم فرعون من بني إسرائيل ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾".
- ابن عاشور: "وخص بالذكر من المن أربعة أشياء وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم".
وملخص ما قالوه في الآية الثانية:
- التفسير الميسر: "وعد الله بالنصر الذين آمنوا منكم وعملوا الأعمال الصالحة، بأن يورثهم أرض المشركين، ويجعلهم خلفاء فيها، مثلما فعل مع أسلافهم من المؤمنين بالله ورسله، وأن يجعل دينهم الذي ارتضاه لهم - وهو الإسلام - ديناً عزيزاً مكيناً، وأن يبدل حالهم من الخوف إلى الأمن، إذا عبدوا الله وحده، واستقاموا على طاعته، ولم يشركوا معه شيئاً".
- السعدي: "هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم أمنا".
- الوسيط لطنطاوي: "تسوق الآية وعد الله الذي لا يتخلف للمؤمنين الصادقين".
- ابن كثير: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله ﷺ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي: أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد".
- البغوي: "أي: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها، فأنجز الله وعده، وأظهر دينه، ونصر أولياءه، وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض".
- ابن كثير: "هذا وعد من الله لرسوله ﷺ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم".
- القرطبي: "قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله؛ ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز".
- الطبري: "ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها".
ولكن هذه السنّة لا تجري على كل مستضعف، بل لا بد أن يكون المستضعف مؤمنا وعاملا للتغيير وفق المنهج الصحيح الذي أوحى الله عز وجل به إلى رسوله ﷺ وهو في مكة، كي يقارع طواغيت قريش وعقائدهم الباطلة وعباداتهم الضالة ومعاملاتهم الخاطئة، ضمن مجموعة من الأوامر والنواهي له ولمن سار معه في تكتله، والتي تشكل بمجموعها مفاتيح العمل الدعوي بدءاً من كلمة اقرأ ومرورا بكلمات أنذر، وقم، وأعرض، واخفض، وتول، وطهر، واهجر... وغير ذلك، وصولا إلى الأمر بالهجرة إلى المدينة المنورة، حيث التحمت الدعوة مع المنعة وقامت الدولة الإسلامية الأولى، فحصلوا على الجائزة الموعودة بالاستخلاف والتمكين والأمن، وهكذا هي السنة بعدهم مع كل مستضعف عامل وفق المنهج، فسيحصل على الجائزة نفسها كما جاء في حديث النعمان بن بشير بأن الخلافة على منهاج النبوة ستكون بعد الملك الجبري.
ونحن اليوم على درب المنهج الصحيح سائرون بإذن الله، وعلى أذى الكفار وأعوانهم صابرون، ولوعد الله ورسوله منتظرون، حتى يفتح الله بيننا وبين القوم الكافرين وأعوانهم بالحق وهو خير الفاتحين، فييسر لهذه الدعوة أهل قوة ومنعة كالخزرجيين، كي تلتحم الدعوة مع المنعة في بيعة عقبة ثالثة، وتقوم دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. فاللهم اجعل ذلك اليوم قريبا، واجعلنا من شهودها وجنودها يا رب العالمين.
رأيك في الموضوع