(الحلقة الأولى)
قبل ذكر حجم المؤامرات الكبيرة؛ والتي تُخطّطُ وتنفّذُ لصدّ المسلمين في أرض الكنانة عن التوجه الصحيح للإسلام، ولإعادة الحكم بما أنزل الله؛ عبر مؤامرات دولية وداخلية وإقليمية، نريد أن نقف قليلا على التاريخ المشرّف لمصر عبر التاريخ الطويل وحتى يومنا هذا؛ من حيث الحبّ للإسلام، والتوجّه نحو تطبيقه في الواقع، فنقول:
لقد سُميت مصر بأرض الكنانة؛ لأنها بالفعل كانت وما زالت، كنانة الإيمان والمؤمنين، وكنانة الجنود الفاتحين المحررين لأرض الإسلام، وكنانة العلم والعلماء على مرّ التاريخ منذ فتحها، وأرض الخير والخيرات والإمدادات الاقتصادية في حال شح البلاد الأخرى والجدب. وقد مدحها رسول الله ﷺ في أكثر من مناسبة فقال: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضاً يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْراً فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً» رواه مسلم، وروى ابن عبد الحكم وهو من علماء مصر، وصاحب كتاب "فتوح مصر وأخبارها" خطبة لعمرو بن العاص رضي الله عنه، خطبها في أهل مصر، فكان مما قال لهم: حدثني عمر أمير المؤمنين: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر؛ فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خيرُ أجناد الأرض. فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنهم في رباط إلى يوم القيامة». وقال ﷺ كذلك: «استوصوا بأهل مصر خيرا، فإن لهم نسباً وصهرا»، وفي رواية: «استوصوا بقبط مصر خيراً فإن لهم ذمةً ورحما» أخرجه الحاكم وصححه، وأخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في دلائل النبوة؛ بسند صحيح؛ عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله ﷺ أوصى عند وفاته، فقال: «اللَّهَ اللَّهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ». والنسب والرحم هو زواج إبراهيم عليه السلام بهاجر، وزواج الرسول ﷺ بماريا القبطية وهما من مصر.
وقد كان لمصر قبل الإسلام ذكر طيّب في قصص الأنبياء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله ﷺ؛ خاصة قصة نبي الله يوسف، ونبي الله موسى عليهما السلام. فقد كانت مصر حاضنة الخير لنبي الله يوسف عليه السلام؛ في عهد قبائل الهكسوس، وبوأ الله له فيها مكاناً علياً، ورفع قدره، وآتاه الملك على أرض مصر، ثم هيأها الله لاستقبال النبوة ورسالة التوحيد من نسل إبراهيم عليه السلام. ومكث فيها بنو إسرائيل مع نبي الله يعقوب عليه السلام، ومكث الموحدون من بعد يعقوب ويوسف عليهما السلام زمناً طويلا يوحّدون الله، ويعبدونه بحق؛ حتى انقلب الفراعنة عليهم، وساموهم سوء العذاب، وازداد هذا العذاب والاضطهاد والاستعباد بعد رؤيا رآها فرعون مصر وأولها له المؤولون: بأن مولوداً لبني إسرائيل سيظهر في أرض مصر؛ ينهي ملكك ويقتلك، ويحرّر بني إسرائيل من العبودية، وينشر ديانة جديدة. وظلّ اضطهاد الفراعنة لبني إسرائيل؛ حتى أراد الله عزّ وجل إظهار دينه مرة أخرى في أرض الكنانة، والقضاء على الوثنية؛ فبعث فيها موسى عليه السلام؛ وانتهى مُلْك الفراعنة، وعادت مصر إلى التوحيد مرة أخرى. وظلت مصر في ديانة التوحيد سنوات طويلة؛ حتى بعث الله عز وجل عيسى عليه السلام، ثم الرسول ﷺ، وكانت مصر ما زالت تعيش في عهد الأقباط؛ من أتباع النصرانية. فكانت بذلك حاضنة لدعوة التوحيد سنوات طويلة؛ حتى دخلها الفتح الإسلامي سنة 20هـ-641م على يد القائد العظيم عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فأصبحت مصر حاضنة عظيمة من حواضن الإسلام؛ كالشام والعراق واليمن، وأصبحت أيضا منطلقاً لفتح بلاد المغرب جميعها بعد سنة 27هـ؛ حيث انطلق الفتح من مصر الكنانة إلى المغرب وتونس؛ فتم فتحها على يد القادة الأبطال مثل الصواب: مثل عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعقبة بن نافع، ثم تتابعت الفتوح في عهد معاوية بن أبي سفيان، من مصر، حيث بعث معاويةُ معاويةَ بن حديج الكندي رحمه الله والي مصر، ثم جاء من بعده مسلمة بن مخلد والي مصر، فولّى على إفريقية مولاه أبا المهاجر ديناراً، فنشر الإسلام وتوسع في الفتوحات حتى وصل إلى تلمسان، وصارت بلاد المغرب قاعدة للفتوح في المناطق المجاورة؛ حتى وصلت إلى بلاد الأندلس. والفضل يعود إلى الجيوش والقادة الذين انطلقوا من أرض الكنانة.
وقد كان لمصر أياد بيضاء على المسلمين في سنوات الشدة والعسرة مثل عام الرمادة. وقد بعث عمر رضي الله عنه كتابا إلى عمرو بن العاص؛ يطلب منه الغوث والنجدة؛ بسبب القحط وقلة الغذاء؛ فقال "واغوثاه واغوثاه". فبعث عمرو رضي الله عنه جواباً على الكتاب: "لأبعثن إليك عيراً (جمالا) محملة؛ أولها عندك وآخرها هنا في مصر".
واستمرّ هذا التاريخ الوضاء لأرض الكنانة؛ في خدمة الإسلام، واحتضان المؤمنين في العهد الصليبي الحالك المظلم في التاريخ الإسلامي فكانت مصر مصدرا للنور والإضاءة لكل البلاد الإسلامية في هذا العهد المظلم الحالك؛ فخرج منها الرجال الأفذاذ وحرّروا البلاد والعباد من شرك الصليبيين وقهرهم؛ في عهد المماليك؛ وذلك عندما اتحدت مصر والشام في عهد نور الدين آل زنكي، وقائده العظيم صلاح الدين الأيوبي، وأسد الدين شيركوه وغيرهم من القادة العظام. واستمر الأمر حتى طهّروا كل البلاد الإسلامية من الصليبيين في عهد القائد العظيم الذي انطلق أيضا من مصر وهو الأشرف خليل بن قلاوون؛ وكان له الفضل في إنهاء حكم الصليبيين في معظم بلاد المسلمين. ثم كان لهم الفضل كذلك عندما خرجت سهام نافذة جديدة من أرض الكنانة إلى صدور المغول المجرمين، وأنهوْا ظلمهم وتخريبهم؛ في المعركة الشهيرة عين جالوت 658هـ بقيادة قطز، ثم في معركة حمص على يد القائد سيف الدين قلاوون حاكم مصر فانتصر عليهم في معركة حمص سنة 680هـ؛ حيث قصم الله ظهورهم، وكانت بداية النهاية لفسادهم العريض على يد القائد المغولي العظيم بركة خان حيث اتبع الإسلام، ونشره في مناطق آسيا الوسطى وروسيا لسنوات طويلة قاربت خمسمائة عام.
وبالإضافة إلى انطلاق أسهم الفتح والقيادات العظيمة من أرض مصر، فإن مصر الكنانة كذلك كانت كنانة للعلم والعلماء على مر التاريخ.
يتبع...
رأيك في الموضوع