وصلنا إلى الزاوية الثانية من هذا الموضوع وهي: تحقق بشارة الفتح العظيم الأول في عهد الفاروق رضي الله عنه. وقبل الحديث عن تحقق هذه البشارة العظيمة، نقول: إن الله عز وجل قد جعل لهذا المسجد مكانة عظيمة في عقيدة هذه الأمة وأحكامها. ومن مكانته أنه قد بشر بفتحه قبل أن يفتح بسبعة عشر عاما تقريبا؛ في معجزة الإسراء والمعراج. وكانت بشارة فتحه مقترنة ببشارة فتح البيت الحرام. ومن مكانته الجليلة كذلك أنه تميز بشد الرحال إليه؛ مقترنا مع المسجدين الحرام والنبوي، قال ﷺ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» رواه الإمام البخاري. وروى الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال ﷺ: «الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ». وشد الرحال يعني تعلق قلوب المسلمين به دائما لزيارته والصلاة فيه، وتعني أيضا تمكين المسلمين من شد الرحال إليه بالأمن والأمان في أكنافه، وفي الطريق إليه. وهذا يعني أن يبقى تحت سلطان الإسلام وحمايته، أي يبقى في أمان المسلمين.
لقد أوصى ﷺ قبل وفاته وهو على فراش المرض الأخير، أن تنطلق الجيوش إلى أرض الشام وجعل قيادة هذا الجيش لأسامة بن زيد رضي الله عنه؛ وذلك ليكمل مسيرة والده الشهيد زيد بن حارثة رضي الله عنه شهيد مؤتة، وأمر زيدا أن تطأ خيله منطقة الداروم ويبنا في فلسطين، وأرض البلقاء. وتوفي ﷺ وهو يقول: «أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ... أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ»؛ فنفذ أبو بكر الوصية مع أن الظروف كانت عصيبة، والمرتدون عن الإسلام ينخرون جسم الدولة هنا وهناك. ثم بعد ذلك جيّش الجيوش الأربعة التي انطلقت للفتوحات؛ وكان منها ثلاثة قواد انطلقوا إلى الشام وهم أبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وانطلق عمرو بن العاص إلى بيت المقدس، وخالد بن الوليد إلى بلاد فارس والعراق. وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، ولم يكتمل الفتح العظيم رغم ما تحقق من فتوحات عديدة، وانتصارات في الشام والعراق. وقد توجت هذه الانتصارات قبل فتح القدس بالانتصار الفيصلي والتاريخي في معركة اليرموك؛ في 5 رجب 15ه-آب 636م؛ أي قبل فتح القدس بشهرين تقريبا؛ حيث فتح الطريق أمام الفتوحات الجديدة في الشام وفلسطين.
انطلق الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص إلى فلسطين؛ حيث اجتمع أربعة آلاف من الصحابة في هذا الجيش بالإضافة إلى باقي الجند، وذلك بعد أن فتح معظم الساحل الفلسطيني، وحاصر بعدها مدينة القدس، وذلك بعد المعركة الفاصلة في اليرموك، حيث كسرت شوكة الروم وهزموا هزيمة منكرة. لقد فتحت معركة اليرموك الطريق نحو باقي المناطق في الشام، كما فتحت الطريق نحو القدس. واستمر حصار القدس ما يقارب أربعة أشهر. وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة كتابا دعاه فيه للتوجه إلى القدس؛ وذلك عندما طال الحصار، وجاء فيه: (من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة: أما بعد؛ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه؛ قد ورد علي كتابك وتستشيرني إلى أي ناحية تتوجه... وقد أشار ابن عم رسول الله - يقصد علياً رضي الله عنه بعد استشارته في الأمر - بالمسير إلى بيت المقدس فإن الله يفتحها على يديك والسلام). وبعد وصول أبي عبيدة وتولي قيادة الجيش استسلم النصارى داخل المدينة؛ لأنه لم يكن لهم أي مدد بعد هزيمة الروم في اليرموك. وفتحت المدينة في 13 من رمضان 15هـ الموافق 18 تشرين الأول 636م، وقد تسلم عمر رضي الله عنه مفاتحها من قائدها صفرينيوس كبير النصارى، وكتب لهم عهدا سمي بالعهدة العمرية جاء فيه كما ذكره الطبري: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن...).
لقد تحققت البشرى العظيمة بفتح بيت المقدس، وأصبحت جزءاً من بيضة الإسلام، وصار المسلمون يشدون الرحال إليها من كل بلاد الإسلام. وعمّر المسلمون المسجد الأقصى، وأزالوا منه كل مظاهر الكفر والشرك والأرجاس، وأشرف عمر رضي الله عنه بنفسه على هذا العمل الجليل. وقد استشهد على ثرى الأقصى وأكنافه المباركة خيرة صحابة رسول الله ﷺ في عمواس وأجنادين وقيسارية وضواحي القدس. وأقام ورابط قسم منهم في بيت المقدس والقدس منهم: شداد بن أوس حيث توفي بالقدس، وعبادة بن الصامت الذي تولى القضاء ومات في القدس ودفن فيها، وأسامة بن زيد ودفن بالرملة جنوب فلسطين، وواثلة بن الأسقع، وفيروز الديلمي، ودحية الكلبي حيث مات في قرية الدحي التي سميت باسمه، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وعلقمة الكناني، وأوس بن الصامت حيث دفن في القدس، ومسعود بن أوس، وسلام بن قيس الحضرمي، ومالك بن عبد الله الخثعمي أبو ريحانة الأنصاري، وغيرهم الكثير ممن سكن ومات في بيت المقدس.
لقد عاش المسلمون في عصر الصحابة رضوان الله عليهم السنوات الأولى بعد الفتح، وطيبوا ثراها الطاهر بأنفاسهم، بعد أن طيبها قسم منهم بدمائهم شهداء. وظلت آيات سورة الإسراء تقرأ آناء الليل وأطراف النهار في أرجائها، ووفود المسلمين تأتيها من كل الأرض؛ استجابة لنداء الرسول ﷺ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ...» وذكر منها المسجد الأقصى المبارك، وظل هذا حال الأقصى إلى أن مني المسلمون بالانتكاسة الأولى في عهد الصليبيين، وهذا ما سنذكره بإذن الله في الحلقة القادمة.
رأيك في الموضوع