الشك ما زال مخيماً على سير الأحداث في ليبيا والرأي العام غير واثق من حسن سير الأحداث ومن أنها تسير في اتجاه حل الأزمة في البلاد. وخصوصا أن مجمل الأحداث الأخيرة من المفاوضات والاقتراحات والإجراءات التي تمخض عنها نشوء السلطة الجديدة، هي بفعل القوى الخارجية من الدول المؤثرة في المشهد الليبي وعلى رأسهم أمريكا، عبر لجنة بعثة الأمم المتحدة والتي قادتها ستيفاني ويليامز الأمريكية. فما الذي تهدف أمريكا إلى تحقيقه في ليبيا؟! خصوصاً بعد أن تم تقليص النفوذ الأوروبي في البلاد بفعل التدخل التركي إلى جانب حكومة الوفاق السابقة ومساعدة الثوار في تحرير محيط طرابلس والمدن الغربية - التي تشكل غالبية السكان - من هيمنة حفتر، والإبقاء عليه في النصف الشرقي من البلاد.
وقد كان للتدخل الدولي الأثر الأكبر في إيقاف زحف الثوار باتجاه المناطق الشرقية لتحريرها من نفوذ حفتر، فكان فرض وقف إطلاق النار على حدود سرت دلالة على أن أمريكا وأحلافها لا تريد حل الأزمة وتريد الإبقاء على حفتر وقواته كطرف يستعمل لتوتير الأوضاع حين الحاجة إلى ذلك. وعلى الأغلب لم يعد حفتر خياراً عند أمريكا لحكم البلاد لأسباب عدة أهمها فشله عسكريا في السيطرة على البلاد، ويبدو أن حفتر قد أدرك جيداً أنه لم يعد خياراً أمريكيا لحكم ليبيا وأن إنهاء خدماته أصبح قريباً وحتى لا يتعرض للاعتقال والمساءلة على الجرائم التي قامت بها مليشياته بأوامر منه فبدأ بتصفية وقتل الرؤوس المجرمة التي كلفها بأعمال الخطف والقتل، فبدأ بمحمود الورفلي الرأس المنفذ لأغلب جرائمه، وسوف يستكمل عمليات التصفية لهؤلاء.
غير أنه يبقى حاجة ماسة لدى أمريكا والغرب كله في الوقت الحالي لجعل البلاد تحت نفوذهم وحتى لا تفكر جهة ما بالخروج من دائرة العمالة لهم والسير في مخططاتهم. ولعل من الأهداف الأمريكية فصل الغرب الليبي عن شرقه عندما تنضج ظروف التقسيم.
هذا من حيث عموم سير الأحداث، وما يجري الآن في أغلبه يؤكد هذا المنحى. فسلطة محمد المنفي وحكومة عبد الحميد دبيبة بدأت تصطدم بالمصاعب مع قوات حفتر وذلك في أول مسعى لتوحيد المؤسسة العسكرية المنقسمة بين شرق البلاد وغربها. فبدأ حفتر باختلاق الظروف التي تحول بين حكومة الدبيبة والدخول في عملية توحيد الجيش ففرض حفتر حالة الطوارئ ومنع التجول، متحججاً بضرورة التصدي لجائحة كورونا، بعد أن أصدرت حكومة الوحدة الوطنية قراراً بحل لجنة الأزمة المتعلقة بجائحة كورونا التابعة لحكومة شرق ليبيا "حكومة الثني" والتي يرأسها اللواء الناضوري، وجعْل مهامها من اختصاص مؤسسات "حكومة الوحدة الوطنية" باعتبار أنها أصبحت حكومة كل ليبيا.
ومن المعلوم لدى كل متتبع للأوضاع في المناطق الشرقية ما يسيطر عليها من خوف وقلق خصوصاً بعد اكتشاف عشرات الجثث ملقاة في أكثر من منطقة في محيط بنغازي، وهذا ما حرض بعض رموز القبائل للخروج واستنكار عمليات القتل والخطف كالاحتجاجات التي قام بها بعض شيوخ وأفراد من قبيلة العبيدات.
أما ما قام به نائب رئيس مجلس الوزراء القطراني مع ثلاثة عشر وزيراً من حكومة عبد الحميد الدبيبة في الذهاب إلى بنغازي لحضور مراسم التسلم والتسليم من حكومة الثني فقد كان ذلك بعد الحصول على ضمانات من مصر وأمريكا.
ويوم 20/3/2021 قام عبد الحميد الدبيبة بزيارة إلى طبرق، وقد اكتسبت هذه الزيارة إلى طبرق معنىً خاصاً والكلام الذي صدر عنه كله في أغلبه نغمة تصالحية تستجدي أبناء القبائل الشرقية للقبول به، وما كان هذا ليتم لولا ضمانة مصر ورعاية أمريكا. كل هذا يدل على أن أمريكا تدفع إلى حالة من الاستقرار في ظل هذه الحكومة لمدة سنة في حدها الأدنى حتى تضع خطة جديدة لليبيا، وفي هذا الوقت تعمل على إخراج روسيا من ليبيا مع دفع بعض الأثمان إلى روسيا على حساب ليبيا. ولفتت "واشنطن بوست" إلى أن نجاح حكومة الدبيبة يعتمد على ما إذا كان نظام بوتين الروسي سيأمر بإخراج المرتزقة "الفاغنر" إلى جانب طائراتهم ودباباتهم ومدافعهم وبطارياتهم الصاروخية والأسلحة الثقيلة الأخرى، مع ملاحظة أن الروس حتى شهر مضى كانوا يعززون قواتهم ويخرقون وقف إطلاق النار، لأن إيجاد حالة من الهدوء - إلى مدى قريب - يستلزم إخراج الروس من ليبيا، وهذا لا بد له من ثمن تدفعه السلطة من مقدرات الشعب في ليبيا. ويبدو أن فاتورة إخراج وإرضاء الأطراف التي قد تعرقل مسار حالة التهدئة هذه تتعدد وتطول، فها هو محمد يونس المنفي رئيس المجلس الرئاسي الجديد يذهب في زيارة إلى فرنسا بصحبة نائبه الممثل لقطاع الجنوب الليبي بعد طول جفاء بين فرنسا وطرابلس. وقد تناولت مجلة جون أفريك موضوع الزيارة هذه قائلة: "إن زيارة المنفي إلى باريس تأتي في سياق مساعي الرئيس ماكرون لإحياء العلاقة "الخجولة" مع الحكومة الليبية"، ويبحث ماكرون مع المنفي حسب مجلة جون أفريك "القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب...، وتنتظر باريس من طرابلس تنفيذ عقد لتوريد معدات للجيش الليبي"، ولنا أن نسأل: من أبرم هذا العقد ووقعه؟ وأي جيش ليبي؟ يغلب على الظن أنه من العقود التي كانت تبرمها حكومة الثني في المنطقة الشرقية، حكومة حفتر، والتي كانت أداة حفتر في دفع أثمان السلاح والعتاد الذي كان يقتل به أبناء الشعب خدمة للأعداء ومنهم فرنسا.
وفي المحصلة فقد ذكرت مجلة واشنطن بوست أن تركيا هي الرابح الأكبر - حسب قولها - من التسوية الليبية وأمريكا يمكنها المساعدة في تعزيز النظام الجديد.
رأيك في الموضوع