في الوقت الذي أكدت فيه الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م على ضمان حقوق المرأة، وإقراراً بدورها واستجابة لتطلعات الشعب السوداني لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة وفقاً لمشروع نهضوي متكامل وإرساءً لمبدأ التعددية السياسية وتأسيس دولة القانون التي تعترف بالتنوع وترتكز على المواطنة أساساً للحقوق والواجبات وتعلي قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، بالرغم من كل ذلك إلاّ أن الوثيقة أفردت فصلاً كاملاً لوثيقة الحقوق والحريات. ومن جملة 70 مادة بالوثيقة جاءت 26 مادة منها لترسخ الحقوق والواجبات، واستعرضت الوثيقة الدستورية حقوق المرأة، وقالت إن الدولة تحمي حقوق المرأة كما وردت في الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي صادق عليها السودان وتكفل الدولة للرجال والنساء الحق المتساوي في التمتع بكل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتضمن الدولة حقوق المرأة في جميع المجالات وتعززها من خلال التمييز الإيجابي، وتعمل الدولة على محاربة العادات والتقاليد الضارة التي تقلل من كرامة المرأة ووضعيتها، وتوفر الدولة الرعاية الصحية المجانية للأمومة والطفولة وللحوامل.
وفي السياق نفسه أعلن وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري فور تسلمه منصبه، تصديق بلاده وانضمامها إلى جميع الاتفاقيات الدولية، مشدداً على التزام الحكومة الانتقالية بإلغاء قانون النظام العام، وتسلم عبد الباري، مذكرة من منظمات نسوية بالخرطوم، خلال مشاركته في حفل تدشين قاعدة بيانات قضايا العنف ضد المرأة، ومبادرة الإصلاح القانوني لهيئة محامي دارفور، ومركز "معا" الثقافي، ومعهدي "السلام" الأمريكي و"تنمية حقوق الإنسان" الأفريقي، ورفعت المشاركات لافتات تطالب بانضمام السودان إلى اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو"، وإلغاء كل من قانون النظام العام، والأحوال الشخصية، وقال عبد الباري، إن رئيس الوزراء وجّه "بالمصادقة والانضمام إلى كل الاتفاقيات الدولية، سنقوم خلال الفترة المقبلة بإجراء تعديلات جزئية على القانون الجنائي، إلى حين إجراء إصلاح شامل"، وأضاف: "نحن في وزارة العدل ملتزمون بإنهاء كل القوانين التي تضطهد المرأة، وسنعمل على إلغاء قانون النظام العام، وإجراء التعديلات في القوانين التي لا تتماشى مع المواثيق والاتفاقيات الدولية".
إن تعبير "حقوق المرأة" الذي تكرر عدة مرات لم يكن مصادفة تكراره، ولم يرفع هذا الشعار استرداداً لحق فقدته المرأة من الرجل، أو من أحد كائناً من كان، بل كان مظهراً من مظاهر التمرد على أحكام الله، والانعتاق من هذه الأحكام شيئاً فشيئا، تمهيداً لأن تنخلع هذه المرأة المسلمة من منظومة القيم التي تنتظم حياتها. كما أنه ترحيل لمشكلة المرأة التي كانت واقعة في حياة الغرب قبل ما سمي بعصر نهضتهم. فهم كما رحّلوا إلينا مشكلة الصراع العنيف بين الدين والعلم التي عاشوها في تاريخهم، رحّلوا إلينا مشكلة المرأة، استنساخاً لمشاكلهم حتى نتقمص تاريخهم ونعيشه ونسير على هداهم ووفق مسعاهم تقليداً لهم واتباعاً وتشبهاً واقتداءً. كأن تاريخهم يمثل طفولة لا بد أن يعيشها كل العالم مع كل الاختلافات في المعتقدات والمقاييس والقناعات!!
ولقد كان من جرّاء تمكّن الكفار المستعمرين من بلاد المسلمين وسعيهم لتمكين الكفر من قلوب المسلمين وترسيخه في علاقاتهم، وكذلك، من جرّاء استحكام عقدة النقص عند فئات منهم، وشعورِهم بأن الغرب لم يتفوق عليهم، إلا لأمر موجود عنده غير موجود عندنا، وهو طراز عيشه ونمط تفكيره وتسييره لنظام الحياة، مما أفضى إلى التأسي بالأجنبي وتقليده، في ظل هذه الأجواء نشأ مفهوم "تحرير المرأة" و"حقوق المرأة".
ولقد تبنى هذه القضية من عرفوا بميلهم للأجنبي أو افتتانهم بمناهجه، أو التلقي عنه أو التأثر به، في الوقت الذي كانت الأمة ضعيفة ضعفاً يجعلها تشعر شعوراً عميقاً بتفوق الكافر عليها، وتقدمِه في كافة مظاهر الحياة، لأن مبعث التميز الذي يتقدم به المسلمون وهوَ فهمُ دينهم وتسيير حياتهم بموجبِه، لم يعد حاضراً في حياتهم، مما يسّر أن يمتلئ الفراغ بما يتاح وهو الفكر الغربي الرأسمالي، تدفعُ به دولٌ كافرة مستعمرة يهمها أن تزرع في نفوس المسلمين كل ما يبقيها مستعمرة لعقولهم وبلادهم.
وبزوال سلطان المسلمين عن الوجود، وهو الذي كان يقيم دين الله في الأرض، كان لا بد من تيسير انفلات الناس رجالاً ونساءً من أحكام الله، لكن الناس مؤمنون موحّدون، فلا بد إذن من استخدام الحيلة معهم، وإيهامهم بأسلوب خبيث أن المرأة تخضع لظلم الرجل وكل من حولها من الرجال خصوم لها! فالمرأة لها خصومة مستحكمة مع زوجها وأبيها وأخيها بل وأمّها التي تود صيانتها، ولا بد لخلاص المرأة من ذلك كله عبر قانون يحميها ويحمي حريتَها من هذا الظلم والتعدي فكانت فكرة "قانون حقوق المرأة".
فأراد الكافر أن يحارب ما تبقّى في بلاد المسلمين من فضيلة ولذلك لا بد من دستور ومواثيق تمنع المرأة من أن تكون شريكاً في إقامة حدود الله مع زوجها فكانت هذه المواثيق الظالمة التي يتواثقون عليها ظلماً وعدواناً وفسوقاً عن أمر الله، بافتراض خصومة مدّعاة، وحرب مفترضة بين المرأة وأبيها وزوجها وذويها لأن هؤلاء جميعاً أعداؤها وهم الذين ينتقصون حريتها!!
ولم تكن في بلاد المسلمين هذه الخصومة وهذه العلاقة التي تستوجب ثورة نسوية قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾.
إن وافدة النساء على رسول الله ﷺ فهمت وأفهمت النساء ما أراده الله للمرأة من مكانة عظيمة لا تتطلع فيها لمساواة الرجل معها بل ولا حتى مفاضلة بينهما لأنه تشريع رب العالمين؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنِّي وَافِدَةُ النِّسَاءِ إِلَيْكَ، هَذَا الْجِهَادُ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الرِّجَالِ فَإِنْ نَصِبُوا أُجِرُوا، وَإن قُتِلُوا كَانُوا أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَنَحْنُ مَعَاشِرَ النِّسَاءِ نَقُومُ عَلَيْهِمْ، فَمَا لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيّ ﷺ: «أَبْلِغِي مَنْ لَقِيتِ مِنَ النِّسَاءِ أَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاعْتِرَافاً بِحَقِّهِ يَعْدِلُ ذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِنْكُنَّ مَنْ يَفْعَلُهُ» فانطلقت تهلل وتكبر وتحمد الله عز وجل استبشارا.
هكذا كانت صورة المرأة المسلمة أمام التشريع؛ تدرك خصوصيتها وصلاحيتها لدورها امرأة تقوم بواجبها كونها الزوج والأم والراعية في البيت، لكنها لا ترى في ذلك ضيراً لأن هذه هي حقيقة وظيفتها التي تتناسب معها، لكن ما يؤرقها هو منزلتها عند الله هل هي متأخرة عن الرجل لأجل كونها لا تعمل أعماله، فبُشرت أن وظيفتها زوجة صالحة طائعة تعدل كل أبواب الخير التي فتحت للرجل.
إلا أن الكافر لا يريد لمثل هذا التصور القويم، وهذه العلاقة السليمة أن تنجح، ففرض عبر المواثيق الدولية لمساواة المرأة بالرجل ومنها سيداو وهي تتضمن مساواة المرأة بالرجل في كل المجالات وتغيير نمط الأسرة التقليدية ومنع زواج الفتيات إلا بعد الثامنة عشرة واختلاط الأنساب وتمنع التعدد وغيرها من المفاهيم المتعارضة مع شرع الله الحنيف.
مع أن للمرأة دوراً مهماً يتصل بأمومتها وأنوثتها وزوجيتها لا يسمح أن تفعل ما يفعل الرجل تماماً لأجل خصوصيتها، وهذه قضية يسلم بها كل عاقل مبصر، فهل المرأة تستطيع أن تكون مرضعة أو مربية لأطفالها الصغار الذين يحتاجونها كل لحظة وراعية لبيت الزوجية وهي في الوقت ذاته تعمل بدوامين؟! أو خارجة مع الجيش جندية في أطراف الأرض؟! المرأة في وضعها الطبيعي قد تكون حبلى أو حاضنة أو مربية فكيف ستجد الطريق لتمضي جنباً إلى جنب مع الرجل في كل ميدان؟!!
لذلك متى ما أطلقت كلمة حقوق المرأة وتحريرها، فهي آلة فساد وإفساد تنطلق في بلاد المسلمين، ليستكمل من خلالها تغريبُ المرأة المسلمة، ولن يوقف هذه المخططات إلا دولة الخلافة الراشدة التي ستخلص المسلمات من مفهوم حقوق المرأة الغربي الفاسد.
رأيك في الموضوع